أيام فقط تفصلنا عن تقديم المبعوث الأممي للصحراء المغربية ستيفان دي ميستورا لتقريره نصف السنوي إلى مجلس الأمن. ما يميز التقرير المرتقب أنه يأتي بعد أن أجرى جولات “استطلاعية” لبحث مواقف أطراف الأزمة: المغرب والجزائر وموريتانيا وجبهة البوليساريو، ورؤى مجموعة القوى العظمى المهتمة بالملف: الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا إضافة إلى إسبانيا. أما الجزء الأهم في التقرير، فهو محاولة استقراء رؤى ومواقف دولة بعينها: فرنسا!! لأن مواقف باقي الدول معروفة وشبه ثابتة.
طبعا الموقف التقليدي الفرنسي معروف، ويتمثل في الترحيب الخجول والبارد بمقترح الحكم الذاتي المغربي واعتباره “أساسا” صالحا ذي مصداقية للبحث عن حل، دون استخدام “أل” التعريف (ليس الأساس الأصلح والأكثر مصداقية للبحث عن حل)!!
أما إذا تعمقنا أكثر، فستطالعنا صورة أكثر تعقيدا مما تبدو عليه ظاهريا؛
لقد دأبت فرنسا تاريخيا على مساندة الموقف المغربي داخل مجلس الأمن، بل وقدمت له خدمات جليلة في بعض المحطات المفصلية، هذه حقيقة! لكن ما هو حقيقي أيضا، هو أن فرنسا قد حصلت على أضعاف “ثمن” هذه المواقف، وأن المغرب وقادته، ومع اعترافهم بهذه الأدوار الإيجابية، لم يغفلوا يوما عن الدور الفرنسي “المغاير” في “تأجيج” العداء الجزائري للمغرب!! قد يبدو الأمر كمفارقة لمن هم بعيدون عن المشهد، ومن يعتقدون أن السياسة مشابهة للرياضيات في أبسط صورها (1+1=2)، لكننا نحاجج أنها الواقع، الذي، وهنا مربط الفرس، آن أوان تغييره، إما بشكل سلس أو بشكل “خشن”!!
ما يدركه القاصي والداني، ولا يحاجج فيه إلا جاهل أو جاحد، هو أن “جنرالات فرنسا” هم من تولوا الحكم المباشر في الجزائر بعد الانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد، بعد أن حكموا من وراء الستار منذ سنوات استقلال الجزائر الأولى. وفي الحالتين، كانت “مهمة” هؤلاء الجنرالات، الحيلولة دون قيام أي علاقة طبيعية مع أخوة الدم والكفاح في المغرب.
تبعية جهاز المخابرات الجزائرية لنظيرتها الفرنسية، هي التي جعلتها “تبتكر” الجماعات “الجهادية” (بشهادة ضباط مخابرات جزائريين فارين)، وتنسب لها الجرائم المستنكرة تجاه المواطنين الأبرياء؛ وتسوّق هذه التجربة “الناجحة” كدليل على نجاعتها لدى مختلف الدول الأفريقية المكتوية بنار هذه الجماعات، وهي دول -للمفارقة- تحتضن في معظمها فرقا عسكرية فرنسية، ويحتفظون بعلاقات عسكرية ودية مع نظرائهم في الجزائر! وبالنسبة للمغرب، شكلت تجربتي الهجوم المسلح على فندق “أطلس أسني” و “تفجيرات الدار البيضاء” محكا كاشفا، كان أثره البعيد في غاية الإيجابية، بعد أن زادت هذه الضربات “غير المميتة” المغرب وأجهزته الأمنية قوة ومنعة، وجعلته يحصد ثمار استجاباته المحكمة، عبر ما تتمتع به أجهزته المحترفة من سمعة ومصداقية لا تضاهيها تجربة أخرى في العالم، لاسيما عندما يتم استعراض جهود ونجاحات “الحرب على الإرهاب”.
ومع فشل مقاربة “العبث” الأمني مع المغرب، لم يبق من وسيلة سوى الابتزاز السياسي. حيث صدرت أوامر “السيد” الفرنسي “للتابع” الجزائري بعدم فتح الحدود تحت أي ذريعة أو مبرر، وهو ما أفقد هذا النظام كل مشروعية محلية أو عربية أو أفريقية أو إسلامية، لاسيما مع المبررات “الصبيانية” التي برروا بها هذا الإغلاق على مدى الثلاثين سنة الماضية، من قبيل محاربة تهريب المخدرات والبضائع، أو “جلب الصهاينة” إلى جوارهم الغربي، وكأن الوضع الطبيعي هو مرور المخدرات على نقط الحدود الرسمية، أو أن “الصهاينة” يقيمون في النقطة الحدودية “زوج بغال”!! أما فرنسا فتكفلت بملاحقة التأثير المغربي المتزايد في القارة الأفريقية، بمساعدة “الشيكات” الجزائرية طبعا، دون أن تحقق نجاحا يذكر، ليس فقط لضعفها الذاتي وافتقادها لمعظم إن لم يكن كل مراكز قوتها “الاستعمارية”، بل لشراسة المنافس المغربي ومتانة منطق شراكته الاستراتيجية القارية، التي بنيت على المبدأين الذين نادى بهما ملكه الحكيم: التعاون جنوب- جنوب، وشراكة رابح- رابح.
بناء على ما سبق، نقول يأن الأزمة العميقة الحالية في العلاقات المغربية الفرنسية ليست شبيهة بأي من الأزمات السابقة بينهما (وهي كثيرة بالمناسبة، واتخذت في معظمها طابعا ابتزازيا)، ولا تشبه في شيء أزمة المغرب السابقة مع إسبانيا وألمانيا! وعليه، فمن التبسيط المخلّ أن نعتقد “بوهم” إمكانية حلها بمجرد صدور تصريح يضيف “أل” التعريف على الموقف الرسمي التقليدي من مقترح الحكم الذاتي!! فالإقرار الفرنسي بالدور المغربي “المستحق” في إفريقيا هو الشرط الثاني، أما الشرط الثالث، وربما الأهم، فهو التوقف عن محاربة المغرب “بالمخلب” الجزائري!! وهو ما يبدو أنه أصعب المطالب على الطبقة الحاكمة في فرنسا، وتحديدا جناح الرئيس “المتذاكي” إيمانويل ماكرون!! إن تحميل الطبقة المتنفذة في فرنسا المسؤولية المباشرة عن أي سلوك عدائي جزائري، هو وضع للأمور في نصابها، وتعبير علني عما تعلمه يقينا أجهزة الدولة المغربية العليا؛ وبالتالي، إدخال المواطنين المغاربة وقواهم الحية وفاعليهم في مختلف المجالات، في هذا “الصراع” متعدد الأبعاد، والذي يسير حتى الآن في منحى تصاعدي، بما يؤهل صاحب القرار المغربي “المحنك” لإخراج “ورقة جديدة” في كل مرحلة من هذه المراحل، وصولا ربما إلى القطيعة التامة مع كل أثر ثقافي فرنسي في المغرب، كما فعلت رواندا على سبيل المثال!!
وبهذا المعنى، يمكن اعتبار أن “المعركة” الحالية التي تقودها المغرب ضد فرنسا، ورغم طابعها المباشر، معركة “بالنيابة” عن المواطنين الجزائريين وسكان الغرب الأفريقي برمته! إن نجاح المغرب في كف يد “المستعمر الفرنسي” عن الاستفراد بمقدرات الشعوب الأفريقية، ورفع غطائه عن زمرة “جنرالات فرنسا” الجزائريين، مدنيين وعسكريين، سيعني بدء مرحلة “التحرر الحقيقي” من فرنسا الاستعمارية، وربما ستفسح المجال لفرنسا “أخرى” لا ندرى مدى إمكانية نشوئها عقب دفن “الجمهورية الخامسة”!
ختاما، يمكن القول إن عنصر الوقت يسير في صالح المغرب، حيث تغرق فرنسا يوميا في “المستنقعات الداخلية” لحكوماتها المتعاقبة، وتتلقى خارجيا مزيدا من الضربات من طيف واسع من الخصوم، الأفارقة والروس والأتراك والصينيين والأمريكان، وستضطر في نهاية المطاف إلى إخراج قواتها العسكرية، وإنهاء “فزاعة الإرهاب الإسلامي المتطرف”، وتسليم الأفارقة أموالهم “المحتجزة” في بنكها المركزي، باختصار، إلى الاعتراف بهزيمتها التاريخية، وتقهقرها إلى الوراء لمحاولة بناء فرنسا “جديدة كليا”. أما المغرب، فطول فصول الصراع سيزيده تمرسا وخبرة، ويفسح المجال أمام “نضج” تجاربه التنموية الحالية، وشحذ أدواته “الناعمة”، ومراكمة النجاحات الأفريقية والعربية، بطريقة تجعله قادرا على التعجيل بإيصال “الجمهورية الخامسة الفرنسية” إلى مصيرها المحتوم!!