يبدو واضحا، أن قادة النظام الجزائري، ومن يأتمرون بأمرهم، قد دخلوا المرحلة النهائية قبل بدء السقوط الحر، بإصرارهم الغريب -والمفهوم وإن كان غير مبرر- على جعل عقيدة “العداء للمغرب” هي مبرر وجودهم الوحيد. مرحلة توّجها الرئيس عبد المجيد تبون خلال حديثه لقناة الجزيرة القطرية، حول علاقة نظامه مع المغرب، مشددا على أنها قد “وصلت نقطة اللاعودة”! ورغم أن هذه الكلمات التي لا تمت لأبسط أدبيات علم السياسة بصلة قد صدرت عمن يفترض أنه رأس الهرم السياسي في الدولة الجزائرية، إلا أن ما يهم -ويستحق التوقف عنده- فيها، هي الخلاصة التي أوردناها في العنوان. وحتى لا نقتدي “بخفة” الرئيس تبون في إصدار الأحكام دون تأسيس منطقي لها، فسنحاول استعراض ما ندعّم بها قناعتنا باقتراب هذا النظام من مرحلة “السقوط الحر”!
لكن قبل الخوض في هذه الحجج، التي سنكتفي باستعراض أبرزها فقط، من المهم محاولة فهم سياق التصريح، وتحديد المخاطب الذي وجهه له. فإذا استبعدنا المذيع الذي طرح السؤال، والمغرب الذي يعرف -بداهة- حقيقة عداء جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، له، منذ استقلالهم “المزعوم” عن فرنسا، وأضفنا إلى قائمة المستبعدين أبناء الشعب الجزائري الأحرار، لأن نظامهم لم يقم لرأيهم وزنا في يوم من الأيام، فيبقى عندنا ثلاثة مخاطبين محتملين: أزلام نظامه الذين قد يتسلل إلى صفوفهم الوهن والإحباط من جراء اللهاث وراء إنجازات المغرب دون التمكن من اللحاق بأي منها، وبالتالي قد يدور في ذهن أحدهم التساؤل البديهي: “ماذا كسبنا من استعداء إخوتنا المغاربة، ولماذا لا نحاول التفاهم معهم؟!” لذلك فهم يحتاجون -بين الفينة والأخرى- إلى تذكيرهم بالعقيدة التي تبرر توظيفهم؛ أو أن تكون موجهة إلى وسيط خارجي مفترض يعمل سرا على محاولة إصلاح ذات البين بين الجارين الشقيقين، وبالتالي فهو رد علني برفض هذه الجهود؛ وإما أن يكون ما قاله الرئيس تبون لا يعدو كونه “قراءة بيان” طلب منه قراءته على شاشة الجزيرة من طرف من يصدر له الأوامر ويكتب له البيانات ويصوغ له المواقف في “الإليزيه”، وهو بهذا نفّذ ما طلب منه! وإذا شئنا الترجيح، فلن يخرج المخاطب عن أحد الطرفين الأخيرين.
وبالعودة إلى حكمنا على هذا النظام بالوصول إلى نقطة اللاعودة، فيمكن تدعيم هذه القناعة بخمس حجج أساسية، مع ما يتفرع عنها من حجج أقل شأنا، وسنحاول جاهدين اختصارها ما وسعنا:
أولا: نظام عسكري: ولا نحتاج هنا إلى الإسهاب في المصائب التي يورثها احتكار العسكر للساحة السياسية، حيث إن السياسة تمشي في ظل المرونة، والبحث عن التسويات، والجري وراء المصالح، والاهتمام بعنصر الوقت والجهد والتكلفة، وتسعى إلى إقامة تفاهمات وتحالفات، وإلى تحقيق حد أدنى من مصالح المواطنين بحثا عن الهدوء والاستقرار. بالمقابل، فالعقلية العسكرية تتنافي مع جملة هذه المعاني والغايات، من أولها إلى آخرها. إن مجرد اعتبار مبدأ “السمع والطاعة” العقيدة الرئيسة للمؤسسة العسكرية، يعني أنها لا يمكن أن تمارس أي دور خارج الثكنات، وبعيدا عن المصالح الأمنية الوطنية العليا.
ثانيا: نظام تابع: حيث يسلبه مستعمره السابق جميع معاني السيادة والإرادة الحرة، وذلك عبر جنرالاته الذين تربوا في فرنسا، وحكموا الجزائر من خلف ستار خفيف منذ الاستقلال وحتى نهاية الثمانينيات، وحكموه بشكل مباشر وسافر منذ بداية التسعينيات وحتى الآن، ويؤكد لنا الرئيس تبون -في تصريحه المذكور- بأنهم سيستمرون -أي الفرنسيين- في حكمه إلى أن تحين لحظة سقوطهما معا: جمهورية العسكر الجزائرية والجمهورية الفرنسية الخامسة!
ويتفرع عن هذه الحجة، واحدة أخرى لا تقل أهمية، تنتج عن عدم امتلاك قادة النظام الجزائري لمصيرهم، ونعني بذلك “قابليتهم للتوظيف والابتزاز”! وهو ما نشاهده يوميا من ورطة النظام في محاولة تنفيذ أوامر فرنسا، واسترضاء روسيا وتركيا، واستجداء الصين، واستمالة إيطاليا، وعدم إغضاب الولايات المتحدة!! دون أن يتوهم أحد أنه في سعيه المستحيل هذا يحاول اللعب على التوازنات؛ بل هو سلوك بائس، يخلو من أبسط مظاهر النديّة، ويعكس قابلية هذا النظام الشديدة للابتزاز، واستعداده الفطري للتوظيف الخارجي.
ثالثا: نظام شائخ: فماذا يمكن أن ينتظر الرأي العام الداخلي والخارجي من قيادة لا يمكن أن يحلم بالانضمام إلى حلقتها القوية كل من هم دون السبعين سنة. وسأضرب أمثلة سريعة لهذه الحقيقة المستمرة على مدى عقود: الرئيس عبد المجيد تبون عمره 78 سنة، وهو نفس عمر رئيس الأركان السعيد شنقريحة. أما رئيس مجلس الأمة الجزائرية (الفتية) فهو صالح قوجيل، الذي بالكاد أتم عامه ال 93! وبالنسبة للوزراء المؤثرين فنجد الخارجية في يد أحمد عطاف (70 سنة) والداخلية في يد إبراهيم مراد (70 سنة)، ناهيك عن المؤتمن على تسيير الدواليب الحقيقية للحكومة، أمينها العام يحيى بوخاري (70 سنة) يا للمصادفة!!! أما متوسط باقي أعمار الوزراء الوظيفيين، والمسؤولين العسكريين فهي تتجاوز الستين بكل تأكيد. هذه الشيخوخة لأركان النظام الأساسية لا بد أن يترتب عليها أثرين في غاية الأهمية: أولها العيش في الماضي وعدم القدرة على تحديث طرق تفكيرهم وأساليب عملهم (بالمناسبة، مؤسسة مايكروسوفت توقفت عن إصدار تحديثات لنظامها “ويندوز 95” منذ عام 2000!!)، وثانيها بطء الحركة وعدم القدرة على اتخاذ قرارات مناسبة للموقف في الوقت المطلوب، فكيف سيتأتى لها إدارة دولة كالجزائر؟!
رابعا: نظام أيديولوجي: وهي الحجة غير البعيدة عما سبقها، لكننا نجعلها منفصلة لنبين خطورة استمرار عيش الأنظمة الفاشلة على أيديولوجية الحكم “الاشتراكية” المستبدة، والأدهى أنها نسخة “الاشتراكية 1.0”! انفصام عن الواقع نشاهده يوميا عندما نطالع أدبيات الدبلوماسية الجزائرية “العتيدة” التي تخاطب الأفارقة حتى الآن بمفردات “زمن حركات التحرر”، وأمجاد “حركة عدم الانحياز”، ومبادئ “مقاومة الاستعمار”، في محاولة مكشوفة “لاستحمار” مواطنيها، والتغطية على بؤس الواقع بالانتصارات الدعائية الوهمية! ويترتب على هذه الحجة “مصيبة” لا تخطئها العين، تتمثل في عدم تمكن القطاع الخاص الجزائري من الفكاك من عقيدة الاقتصاد الموجه، وعجزه عن القيام بأي أدوار داخلية، ناهيك عن المساهمة في مساعدة نظامه قاريا، مما يؤدي إلى نمو اقتصاد “النهب” وفساد الصفقات العمومية، وتحويل ثروات الجزائر المنهوبة إلى جزر خارجية آمنة، وترك الشعب محروما إلا من فتات سنوات “الطفرة النفطية”!
خامسا: نظام فاقد للمشروعية: وهي الحجة الأهم وإن تركت آخراً؛ وهي محصلة جميع ما سبقها من حجج. فنظام هذه مواصفاته، لا يمكن من الناحية المنطقية أن يحوز رضى شريحة كبيرة من الشعب الجزائري الحر. وحتى لا يظن أحد أن في هذا الحكم بعض التجاوز، يكفي أن ندلّل عليه بالتذكير بشاهدين: نسبة المشاركة الشعبية في الاستشارات الانتخابية المزورة على اختلاف أنواعها، والتي نادرا ما تجاوزت ربع عدد الناخبين (لو نشرت النتائج الحقيقية لناهزت أرقام الانتخابات التونسية الأخيرة!)، والأهم، الحراك الجماهيري الذي تجاوز من شاركوا فيه عدد المصوتين في جميع انتخابات الجزائر منذ الاستقلال، قالوا كلمتهم الأخيرة بالملايين في 2019، وكرروها لأكثر من عام: الشعب يريد إسقاط النظام!
ختاما، لطالما تحدثنا عن كون التفاهم مع الجار المغربي، والانضواء تحت خيمة “المغرب الكبير”، سبيلا وحيدا لنيل هذا النظام حريته واستقلاله الحقيقي عن المستعمر الفرنسي، وخطوة في درب تأسيس جمهورية جديدة تضع رفاهية الجزائريين على رأس قائمة الأهداف التي يسهر على تنفيذها شباب جزائري مخلص ووطني؛ وأنه بدون هذا السبيل لن يكتب لجنرالات الجزائر، واتباعهم في المراحل السابقة واللاحقة، أي فرصة “للخروج الآمن”، لكن “البيان” الذي تلاه واجهة النظام الرئيس تبون، تضعف هذا الأمل إلى حد التلاشي، ولا تترك لكل محبي هذا الشعب العظيم سوى الدعاء، بأن يخفف الله عنهم تبعات سقوط هذا النظام!