بشق الأنفس، نجحت المخابرات الجزائرية المشرفة على عقد المؤتمر السادس عشر لجبهة البوليساريو في إنهائه، بعد تأجيل لمرتين، ضاعف مدة عقده المفترضة من أربعة أيام إلى سبعة. “نجاح” -تجاوزا لا حقيقة- اقتصر في النهاية على عقد المؤتمر بحد ذاته، والتجديد لابراهيم غالي على رأسه، ومنع أي اضطرابات جماهيرية عبر الإنزال الأمني المكثف. هذه “النجاحات” كان ممكنا إنجازها لو عقد المؤتمر “أونلاين” أو اكتفت المخابرات الجزائرية بتجديد اشتراك غالي تلقائيا كما تفعل شركات الاتصالات لاشتراكاتنا التلفونية.
أما إذا تحولنا إلى خانة الفشل، فيمكن، بنفس الاختصار، أن نقول أنها شملت جميع النواحي الأخرى، غير التجديد لغالي، بداية من عقده بعيدا عن تراب الصحراء المغربية، مرورا بهزالة الحضور الدعائي الخارجي، أو التمثيل الحقيقي الداخلي، وانتهاء بفضيحة التقرير المالي، وعبثية النتائج الختامية. وإذا تعمقنا أكثر في هذا المؤتمر، يمكن أن نضع أيضا هذا “النجاح” الوحيد بالتمديد لغالي في خانة مظاهر الفشل، ليصبح الفشل عنوانا كاملا لجميع تفاصيل هذا المؤتمر، ويقوي حجة القائلين بأنه ربما يكون آخر مؤتمرات هذه الجبهة الصورية!!
وحتى لا يظن أحد أن الحكم بفشل المؤتمر هو “حكم قيمة” منحاز ضد “عصابة” البوليساريو وولي نعمتها الجزائري، نستعرض سريعا الأسباب الموضوعية التي تبرر هذا الحكم. فعلى الرغم من تكرار “أكذوبة” أن المغرب يسيطر على 80% من صحرائه بينما تسيطر البوليساريو على 20% منها، والتي تصر عليها كبريات وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الدولية، لاسيما الفرنسية منها، بدا واضحا عجز هذه العصابة أو راعيها الجزائري عن عقدها على أي شبر من المساحة التي “يسيطرون” عليها كما يدعون، حيث يعلمون جيدا أن طائرة مسيرة مغربية واحدة “درون” كفيلة بتحويل خيام المؤتمر إلى رماد برمشة عين، وبالتالي تعرية الكذبة وانتهائها، فكان أن اتخذ جنرالات الجزائر قرارا بعقدها قرب مخيمات تندوف، تحت نظر وسمع المخابرات وإشرافها.
فشل آخر تمثل في عدم قدرة مليارات جنرالات الجزائر على تأمين حضور عشرة أقزام على شاكلة “مانديلا الصغير” الذي اكتفى بالدعوة للحرب من أجل “تحرير” آخر مستعمرات أفريقيا من ملعب كرة قدم!! دون أن يكلف نفسه عناء الإدلاء بخطاب ثوري آخر من خيام تندوف! أما لائحة الضيوف التي تجاوز عدد أسمائها ال 300، فيعلم القاصي والداني أنها أسماء توضع ارتجالا من أجل تضخيم فاتورة التنظيم والضيافة، التي تذهب إلى جيوب صغار الضباط الجزائريين ومرؤوسيهم في جبهة البوليساريو. ومن جهة أخرى، تؤشر بما لا يدع مجالا للشك، على العجز المتزايد لجنرالات الجزائر عن إغراء وجلب “مناضلين” أمميين من أفريقيا وأمريكا اللاتينية، يدعمون “النضالات التحررية الصحراوية”، رغم العائد المادي المجزي الذي يمكن أن تجود به الموازنة الجزائرية!
ويرتبط بفشل التمثيل الخارجي آخر أخطر يتعلق بالتمثيل الداخلي. فرغم الاضطرابات واللغط الذي واكب عملية اختيار المندوبين المسموح لهم بحضور المؤتمر، والذي وصل حد وصفه “بالغليان” من طرف كثير من الناشطين الشباب، والسكان من خارج القبيلة المهيمنة “الركيبات” وشريكتها الأصغر “الدليم”، فقد أصر “الراعي” الجزائري على تأمين حضور داعمي التجديد لزعيم العصابة الحالي ” ابراهيم غالي” وتمتيعه بولاية ثالثة رغم تجاوزه الثالثة والسبعين من العمر. ولعل العجب يزول إذا تنبهنا إلى حقيقة أن اختيار من هم فوق السبعين للمناصب القيادية العليا، هي “عقيدة راسخة” ترقى لدرجة “الحقيقة القرآنية” لدى جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين. “فالجنرال المدني” (الرئيس الجزائري) عبد المجيد تبون يبلغ من العمر 78 سنة، وهو نفس عمر الرئيس الفعلي، “الجنرال العسكري” الفريق أول السعيد شنقريحة رئيس الأركان. أما رئيس مجلس الأمة “المناضل” صالح قوجيل، الممثل المفترض للشعب الجزائري الشاب في معظمه، فقد استغرق مني تقبل حقيقة عمره وقتا طويلا في محرك البحث غوغل، لأنني لم أصدق أنه يبلغ 92 عاما. فإذا كانت الجزائر بملايينها ال 45 عاجزة عن إيجاد “قائد” تحت الستين، فمن باب أولى أن تصر على ترؤس غالي السبعيني لعصابة البوليساريو بدلا من البشير مصطفى السيد الذي لم يغادر عقده السادس بعد. أي لم يصل إلى الحيوية والنضج العقلي والخبرة العملية التي يتمتع بها أبناء العقد السابع والثامن والتاسع!!
أما مظاهر الفشل الأخرى والأهم، فتتمثل في شعار المؤتمر نفسه (تصعيد القتال لطرد الاحتلال واستكمال السيادة) وبيانه الختامي. فالحديث عن “تصعيد القتال” هو حديث عن “واقع افتراضي” يتمثل في “حرب”، تجري في جغرافيا “متوهمة” هي الصحراء المغربية شرق الجدار الأمني، تدار بواسطة تكتيكات “ألعاب الفيديو” في نسخها الأكثر بدائية من حقبة السبعينات والثمانينات!! وبالنسبة “لطرد الاحتلال” فلا أدري كيف يتم طرده دون اشتباك، اللهم إلا إذا صدقنا وسائل الإعلام الجزائرية التي تبث يوميا البلاغات العسكرية المضحكة لعصابة البوليساريو وانتصاراتها المظفرة!! أما الحديث عن “استكمال السيادة”، فيصعب التعامل معه بجدية ودون سخرية، لأنه، ببساطة، يفترض، بداية، وجود حد أدنى من هذه السيادة على مخيمات تندوف نفسها، قبل أن تطالب العصابة باستكمالها خارج حدود المخيمات!!
وإذا نحينا السخرية الواجبة من واقع المؤتمر والبوليساريو جانبا، يمكن أن نختم بالمؤشر الوارد في العنوان. فعجز نظام الجنرالات في الجزائر، عن إيجاد بديل لابراهيم غالي، بل ولقيادات الدولة الجزائرية نفسها، دليل صارخ على أن هذا النظام قد فقد حيويته، واستسلم للجمود المصاحب لعقلية قيادته الثمانينية، التي تنظر بعين الاستخفاف والريبة إلى كل من هم دون الستين. أما الأجيال الأصغر سنا، من هم بين 30 و 50 عاما، فالقول بتحميلهم أي مسؤولية قيادية في هذا النظام المتحجر هي “هرطقة” و “تجديف” أين منه التجديف الإلهي!! الأمر الذي يسد جميع منافذ التغيير العاقل والسلمي، ويجعل “الثورة” أو “الانقلاب” على هذه المسلمات هما السبيل الأوحد للتغيير، رغم المخاطر الكبيرة المحيطة بهذه الخيارات.
إن التسليم بعدم وجود أي بديل للزعيم الحالي للعصابة ابراهيم غالي، سواء كان مبررا أو غير مبرر، يعني شيئا واحدا فقط: إفلاس المشروع وقرب إقفاله! إقفال يصبح معه البحث عن “بديل إنقاذي” متعذرا وغير مبرر. وأما التعامل المعتاد مع هذا التغيير على أنه غير مستعجل، وبالتالي، ربطه بآجال زمنية مفتوحة، على اعتبار أن الوضع لم يصل بعد إلى لحظة تأزم وانفجار، فإن جميع التجارب البشرية السابقة أثبتت أنه رهان فاشل وغبي، حيث لن تستطيع أي قيادة ملهمة ساعتها، إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، ومنع الانهيار التام للمشروع!