جرت العادة تقليديا، على الاستماع لآراء الدبلوماسيين والخبراء والإعلاميين الفرنسيين عندما يتعلق الأمر بالجزائر وشؤونها، ليس لأنهم الأكثر معرفة بنظام هذا البلد بحكم احتلالهم الطويل له (أزيد من 130 سنة)، لكن بالأساس -وهذا ما لا يصرح به الجميع- لأن هذا النظام هو “صنيعة” الجمهورية الفرنسية منذ نشأته ربما، وتحديدا منذ مرحلة ما بعد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد. لهذا السبب، لم تكن تصريحات مسؤول فرنسي سابق، هو كزافييه درينكور لتمر مرور الكرام؛ كيف لا وقد شغل منصب السفير الفرنسي في الجزائر سنوات 2008- 2012 و2017- 2020، ناهيك عن مناصب مدير عام وزارة الخارجية ورئيس المفتشية العامة للشؤون الخارجية. درينكور لخص الوضع في الجزائر في كلمات تخلو من أي لفظ اكتسبه خلال عقود عمله الدبلوماسي: “إذا كان من الضروري تلخيص الوضع بإيجاز وواقعية، فينبغي القول أن الجزائر الجديدة، حسب الصيغة الرائجة في الجزائر العاصمة، في طريقها نحو الانهيار أمام أعيننا”!!!
ولم يكتف السفير السابق بتشخيص وضع البلد، بل ربطه بكلام أكثر قسوة ووضوحا حول طبيعة النظام الجزائري نفسه: “إن الوجه الحقيقي للنظام الجزائري يقول أنه نظام عسكري وحشي يختبئ وراء واجهة حكومة مدنية، يهتم بأعماله التجارية على غرار النظام السابق الذي طرده، ومهووس بالحفاظ على امتيازاته وريعه، دون الاكتراث بالصعوبات التي يواجهها الشعب الجزائري”؛ مدللا على كلامه بالقول: “يقبع اليوم في السجون الجزائرية، ليس فقط السياسيون والموظفون والجنود المرتبطون بالنظام السابق، الذين يدين لهم الجيش الوطني الشعبي بوضعه الحالي، ولكن أيضا الصحفيون الذين انتقدوا النظام، وأولئك الذين نشروا بسذاجة على الشبكات الاجتماعية رأيا مخالفا، والتهمة الجاهزة هي تلقي أموال من الخارج ونشر أخبار كاذبة من أجل زعزعة استقرار البلد”، ليختم بالقول مؤكدا “الهاجس الوحيد للـ 45 مليون جزائري هو المغادرة والفرار”!!!
وإذا كانت هذه التصريحات والأحكام صادمة للرأي العام الفرنسي والغربي، ولشرائح واسعة من الرأي العام العربي الذي لا يملك ترف التمحيص في الصورة الدعائية البراقة التي يروجها وكلاء جنرالات الجزائر، المدنيين والعسكريين، فإنها أبعد ما تكون عن ذلك بالنسبة للناشطين الجزائريين والمواطنين الذي يتكبدون عناء البقاء في الجزائر، ولكل من يتابع تدهور الأوضاع في هذا البلد العظيم من خارجه.
ولا نريد التوسع في التدليل على المؤشرات التي لا تخطئ لانهيار النظام الجزائري، والتي جاءت جائحة كورونا لتوقف الحراك المبارك ضده، قبل أن ترفع الحرب بين روسيا وأوكرانيا أسعار النفط والغاز، وترفد موازنته بعشرات المليارات التي من شأنها تلبية بعض الاحتياجات الآنية للمواطنين، وبالتالي بعض التأجيل لمراسم دفن هذا النظام! لكننا سنتطرق إلى مؤشر واحد يدرك من يمتلك أبسط إطلاع على أدبيات السياسة مدى صدق تعبيره عن وصول أزمة أي نظام إلى مراحلها الأخيرة: انتقال الجهة المتنفذة في النظام (مؤسسة الجيش في الحالة الجزائرية) من مرحلة الانعزال والانغلاق، إلى مرحلة “التغول” وابتلاع باقي السلطات!!
وفي هذا السياق، يدافع قائد الجيش الفريق أول السعيد شنقريحة عما يسميه “توسيع مفهوم الأمن القومي”. كلام وإن كان محقا من الناحية النظرية، فإنه عرضة لإساءة الاستخدام من قبل الأنظمة الدكتاتورية، على شاكلة نظام الجزائر. فبحجة هذا التوسيع قام جنرالات الجزائر بإدخال جميع مناحي الحياة تحت قائمة الأمن القومي المهدد والمستهدف، كالإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وعمل منظمات المجتمع المدني، والأحزاب والنقابات، بل والرياضة والمؤسسات الاقتصادية على اختلاف أنواعها. صحيح أن هناك أمنا غذائيا، ومائيا، وثقافيا ومجتمعيا .. الخ، لكن الصحيح أيضا أن لكل واحد من هذه المجالات من يتصدون له من قوى المجتمع المختلفة، حكومية وأهلية وقطاع خاص وغيرها، في عمل متكامل ومتناغم، لكن مع الحفاظ على خصوصية واستقلالية كل مجال (نسبيا)؛ أما أن تصبح كلمة “أمن” ذريعة لإلحاق جميع هذه المجالات والعاملين فيها تحت جناح وإشراف وتوجيه مؤسسة الجيش، فهو ما يمكن تسميته “بالتغول”!!
وكمثال على ما نقول، أدارت مؤسسة الجيش الجزائري، خلال الشهر الماضي فقط، ثلاثة مؤتمرات دولية ذات علاقة بميدان الإعلام، جاء أولها بعنوان: “الإعلام والذاكرة”، وناقش الثاني “أبعاد ومخاطر الفضاء السيبراني في التأثير على الوحدة الوطنية”، وتطرق الثالث إلى “جيوسياسية التطرف المنطلقات والتهديدات والتحديات وآليات المجابهة”!! بهذا يصبح الجيش مسؤولا عن ملف الذاكرة! والوحدة الوطنية! وخطاب التطرف! وتنتفي الحاجة لعمل وزارات الثقافة والتعليم والشؤون الإسلامية! ليس ذلك فحسب، بل هو من يضع تعريفاتها، يحدد أولوياتها، يشرف على برامجها، ويقرر أن العمل على هذه المواضيع التي تهم كل جزائري ممنوع خارج مظلة ورؤية وهياكل المؤسسة العسكرية!! وهو ما عبر عنه الفريق شنقريحة بوضوح “هذه المقاربة الشاملة (التي يضعها الجيش طبعا!!) يتطلب إعمالها إشراك النخب الوطنية (العاملة تحت إشرافه!) القادرة على رصد جميع المضامين المسمومة الإعلامية والثقافية والفكرية التي تستهدف هويتنا الوطنية ونسيجنا الاجتماعي والشعبي (وفق تعريفاته!!)، واقتراح التدابير المضادة التي يجب القيام بها لمواجهة هذه الحملات المكثفة التي تتعرض لها بلادنا (والتي يلصقها جميعها بالمناسبة، بجار التاريخ والكفاح المغرب)”. وهكذا، يقوم الجيش بتأبيد حالة “استهداف” الجزائر من قبل المغرب، وتصبح المهمة الوحيدة “الوطنية” هي مناكفة ومعاندة ومهاجمة المغرب بمناسبة أو بدون مناسبة، وأيا كان الموضوع أو المحفل!!
بهذا التصور، تصبح النخب الجزائرية، أكاديمية وسياسية واقتصادية ومجتمعية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما العمل من داخل مؤسسة الجيش (إذا كانت محظوظة بما يكفي لتقبل بها المؤسسة العسكرية وتقدم لها عرضا بالعمل)، أو تذهب باتجاه البطالة أو الهجرة، أما الباحثون عن خيار ثالث يتعلق بالعمل المستقل، فمصير أزيد من 300 معتقل سياسي ماثل أمامهم، بتهم لا يحتاج قاض للبحث عنها أصلا: نشر أخبار كاذبة أو مضللة بهدف زعزعة استقرار الجزائر الذي لا يلمسه أحد أصلا!!
إن وصول أي نظام إلى هذه المرحلة التي يضيق بها ليس بالمخالفين فحسب، بل وبمن هم في دائرته ممن تعودوا العمل خارج مؤسساته الرسمية، يعني أنه لم يعد لديه فائض من القوة والثروة والمناعة الداخلية، يمكنها أن تستوعب أعدادا متزايدة من القوى والفاعلين، وأنه من الهرم والتكلس بحيث أن أي محاولة لتطويعه أو إضفاء المرونة على أفعاله سينظر لها بأنها محاولة لكسره! وهو ما نشاهده في النظام العسكري الجزائري. ولا أدل على ذلك من آلاف الشباب الجزائري الذين يعيشون فقط، على هامش الواقع (بفعل المخدرات) وعزاؤهم الوحيد تحقيق حلمهم يوما بالهجرة إلى الضفة الشمالية للمتوسط حتى عبر قوارب الموت، وهو ما يجعل المهاجرين الجزائريين يصلون إلى حوالي 73 بالمئة من مجمل المهاجرين الذين استقبلتهم الشواطئ الإسبانية في الإحصائية الأخيرة (سنة 2021)!!
وسواء تحققت توقعات الدبلوماسي الفرنسي التي بدأنا بها، أو احترم منطق انهيار الأنظمة الشمولية، فلا يوجد منصف يتمنى لهذا الشعب الجزائري العظيم مثل هذا السيناريو المتشائم، لأن جميع جوار الجزائر سيتأثرون به شاؤوا أم أبوا، ليبقى خيار التغيير بالحراك الداخلي، وبأيدي الوطنيين الشرفاء من أبناء هؤلاء المجاهدين هو الخيار الأسلم والأقل تكلفة. حمى الله الجزائر وأهلها من شرور جنرالاتهم، عسكريين ومدنيين، وسخر لها ما يلبي تطلعات أهلها في الرخاء والحرية والكرامة.