يوما بعد آخر، ومع توالي الأزمات عليه، يبدو النظام الجزائري عاجزا عن استيعاب، التأقلم مع، وإحداث استجابة وتغييرات تعالج أو تخفف من أثر هذه الأزمات، وتقوي أمله في الاستمرار لسنوات أخرى. هذا العجز عن إحداث ردة فعل مناسبة لما يواجهه النظام من تحديات، يعود أساسا لضخامتها، فهي نتاج تراكم جميع أخطاء وسياسات وأساليب النظام الذي تأسس عقب الاستقلال في بداية الستينات، الأمر المسؤول عن تضخّم “فواتيرها” المستحقة؛ ومن جهة أخرى، إلى طبيعة النظام المتكلّسة، الفاقدة للقدرة على التوائم مع المتغيرات المتتالية، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا خلال العقود الستة الماضية، وهو ما يجعلها محدودة البدائل بشكل كارثي، ومضطرة -أمام مكابرتها، وعجزها عن إحداث أي تغيير حقيقي في بنية النظام العميقة- إلى الاستمرار في سياستها الوحيدة المتاحة: شراء الوقت والهروب إلى الأمام!!
وقبل اتهام هذه الخلاصة بالمبالغة والتحيّز، من المفيد أن نستعرض أبرز الأزمات التي تشكل ملامح “الورطة” التي يجد فيها نظام جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، نفسه اليوم، سواء في مواجهة الشارع الذي خرج عن السيطرة وقال كلمته عام 2019، أو في علاقته مع جاره المغربي، وكذا في محيطه المغاربي والعربي والأفريقي، وأخيرا، الدولي.
لقد بدا واضحا لأبناء الجزائر الأحرار، أن رؤوس نظامهم الحاليين لم يقوموا بتغيير أي من مرتكزات النظام الذي ثاروا ضده، وخرجت ملايينهم للمطالبة بإسقاطه بشكل سلمي وحضاري مذهل، بل إنه -أي النظام- عاد، بعد اغتيال الفريق أول قايد صالح، أسوأ مما كان، وقام الجنرال شنقريحة وزمرته بشطب جميع الخطوات الإصلاحية التي بدأها سلفه، بما في ذلك إطلاق سراح رموز “جنرالات فرنسا” داخل المؤسسة العسكرية وخارجها (الجنرالين توفيق ونزار وغيرهما)، بل وأعادوا بعضهم للخدمة! أما من بقي مؤقتا خارج دائرة “الرضى الشنقريحي” كالسعيد بوتفليقة ورجالاته السياسيين والاقتصاديين (أويحيى، حداد، السلال، الخ)، فلا يعدو كونه ورقة لامتصاص النقمة الشعبية على رموز الفساد في نظام بوتفليقة، قبل أن يصار إلى تخفيف وإلغاء الأحكام الصادرة ضدهم بعد الوصول إلى “تسوية مناسبة معهم”! وعليه، يدرك الجزائريون قاطبة أن مطالبهم الأساسية المتعلقة بالتزام الجيش ثكناته، وعدم تدخله في الشأن السياسي؛ وفتح مجال تداول السلطة سلميا عبر نظام ديمقراطي حقيقي، وعودة الشعب مصدرا للسلطات؛ ووضع ثروات الجزائر في خدمة مصالح أبنائه وتنمية وتطوير أوضاعهم المعيشية ورغبتهم في حياة كريمة، وغيرها من المطالب التي كان الشارع يكررها مرتين أسبوعيا في تجمعات مليونية، تم الضرب بها عرض الحائط، بل وتم رفع سقف القمع ومحاصرة الحريات العامة، وما آلاف معتقلي الرأي في سجون النظام إلا شاهدا ناصعا على هذه الحقيقة.
لكن، ولأن شعبا بمثل أنفة الشعب الجزائري وإحساسه العالي بالكرامة، لا يمكن أن يتنازل بسهولة عن مطالبه وأحلامه، نجد الأصوات تتعالى مؤخرا في انتقاد قرارات النظام، وبشكل علني بدأ يصل إلى وزراء سابقين وبرلمانيين حاليين، من قبيل التشكيك في قدرة القمة العربية على تحقيق أي من بنود بيانها الختامي، وهي القمة التي أصر النظام على انفاق الملايين من أجل احتضانها “لتبييض صفحته” والإيهام بأنه لا يزال قادرا على استعادة سنوات “مجد” دبلوماسيته في أثناء الحرب الباردة، وهو ما ثبت زيفه، بعدما لم يستطع فرض بند واحد في البيان الختامي يتجاوز التوافقات الرسمية العربية الكلاسيكية تجاه جميع القضايا المطروحة. كما بدأت الأصوات تتعالى ضد قرار إغلاق الأجواء أمام الطائرات المغربية والقادمة من المغرب، بسبب المعاناة الشديدة لآلاف المواطنين الجزائريين في التنقل بين المغرب وأوروبا ووطنهم الأم، نتيجة العجز الواضح للخطوط الجوية الجزائرية عن نقل حتى ربع هذه الأعداد، ناهيك عن المحدودية الشديدة لخريطة خطوطها، وهو الأمر الذي يجدد من خلاله المواطنون الجزائريون التنديد بقرار إغلاق الحدود مع جيران الدم والكفاح والتاريخ المشترك، والمستمر منذ قرابة ثلاثة عقود، وهو ما يلقى على النظام عبء إبقاء خلافاته السياسية مع المغرب بعيدا عن مصالح المواطنين وحياتهم اليومية. نفس الأمر يتكرر مع الإصرار على استضافة فعاليات رياضية دولية وهدر الملايين التي يحتاجها الجزائريون في تطوير بنيتهم التحتية ومنظوماتهم الصحية والتعليمية والخدماتية وغيرها، مع علمه بأنها تنتهي دائما إلى فضيحة جديدة، وذلك نظرا لافتقار بلادهم إلى معظم المرافق والخدمات المحترفة التي تؤهلهم لمثل هذه الاستضافة. ورطة لا يجد النظام الحالي المتكلس سبيلا للتعامل معها سوى استمرار تجاهلها، والسماح بتفاعلها البطيء إلى حين انفجارها.
وبالانتقال إلى ورطة جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، الكبرى، والمتمثلة في “صراعهم” مع جارهم المغربي، فتبدو التفاصيل أكثر تشعبا، والصورة أكثر وضوحا. لقد اختار قادة النظام الجزائري منذ البداية، وضع جميع بيضهم في سلة الميليشيا الانفصالية المتمثلة في مرتزقة البوليساريو، فكان أن أسسوها منتصف السبعينات بالتنسيق مع عسكري على نفس شاكلتهم (العقيد القذافي) ورعوها وأمدوها بالسلاح والتدريب، وفتحوا الخزائن من أجل شراء المواقف الداعمة “لجمهورية وهمهم الصحراوية” مستفيدين من وفرة “البترودولار” وظروف الحرب الباردة، وهو الأمر الذي شهد عدة متغيرات استراتيجية لم يستطع جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، قراءتها، وبالتالي التعامل معها، بدأت ببناء الحاجز الأمني الرملي داخل الأقاليم الصحراوية على طول الحدود مع الجزائر، الأمر الذي قاد للمتغير الثاني المتمثل في قرار وقف إطلاق النار برعاية أممية أوائل التسعينات، وبروز مخطط الاستفتاء على تقرير المصير، الذي ما لبث أن تعطل بسبب تأكد المجتمع الدولي من استحالة الاتفاق على معايير تحديد هوية الصحراويين الذين لهم الحق في المشاركة فيه. تلت ذلك مرحلة فراغ وجمود، أحسن المغرب استغلالها في تكثيف عملية التنمية داخل الأقاليم الجنوبية، وفق نموذج موسع للجهوية، يعطي للسكان المحليين في مختلف أقاليم المغرب وجهاته مزيدا من التحكم في عملية التنمية المحلية، إيرادا وإنفاقا، بينما لم ينجح النظام الجزائري وصنيعته البوليساريو في إنجاز أي شيء يذكر للمئات من المحتجزين الصحراويين في مخيمات تيندوف والحمادة، حتى يستمرون في المتاجرة بمعانتهم وتضخيم أرصدتهم المصرفية من عوائد بيع المساعدات الدولية الموجهة للمحتجزين. وكان منطقيا أن يتوج هذا المتغير التحول الاستراتيجي الأبرز المتمثل في “مخطط الحكم الذاتي” في الأقاليم الصحراوية، والذي شكل في النهاية، “طوق النجاة” الأمثل للأمم المتحدة، الذي يبرر المليارات التي صرفت، ولا تزال، على بعثتها في الصحراء، ويضع على الطاولة ما يمكن اعتباره أساسا لحل سياسي سلمي واقعي لهذا النزاع الذي يقترب عمره من نصف قرن! مخطط لا تزال دائرة المؤمنين به تتسع يوما بعد آخر، لا سيما بعد أن “أقبرت” الأمم المتحدة رسميا المقترح المقابل له المتمثل في الاستفتاء (لتأكد استحالة إجرائه)، ولم تعد تذكر هذا الأخير في جميع قراراتها منذ 2018!
أما أوجه الورطة الجزائرية في هذا الوضع فهي متعددة وخطيرة، فمن جهة تقف عاجزة عن تسرّب الاعتراف بالبوليساريو من بين أصابعها أفريقيا بعد أن فقدت الأمل به عربيا، بحيث تطالعنا الأخبار المتعلقة بسحب الاعتراف بالبوليساريو وجمهوريتها الموهومة بشكل شبه يومي، وهي ترى بوضوح أن المسألة لن تتعدى القمة الأفريقية المقبلة أو التي تليها قبل إنهاء عضوية جمهورية الوهم في الاتحاد الأفريقي. من جهة أخرى، يدرك جنرالات الجزائر، العسكريون بالخصوص، أن احتمالات تحقيق الميليشيا المسلحة لانتصارات عسكرية على الجيش المغربي لا تتجاوز الصفر، وأن أي تصعيد مهما بلغ حجمه سيعجل بنهايتهم تماما، وهو ما تم اختباره في “الكركرات” وجاء بنتيجة كارثية على المرتزقة ورعاتهم. ومن جهة ثالثة، يدرك جنرالات الجزائر، السياسيون هذه المرة، أن عكس مسار الاعتراف والإشادة بمخطط الحكم الذاتي أصبح في مصاف المستحيل، مع حسمه عربيا وأسيويا، وشبه حسمه أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية، واقتراب حسمه أوروبيا وأمميا، وأن على نظرائهم من العسكريين المسارعة للاعتراف بالواقع الذي يرفضون رؤيته، وأن يرفعوا “الفيتو” المسلط على رقاب السياسيين لمحاولة الجلوس على مائدة التفاوض مع نظرائهم المغاربة، على أمل الحصول على أي ثمن يحفظ ماء وجه النظام مقابل ورقة البوليساريو الجافة، قبل أن تتحول إلى رماد لا يمكن أن يدفع مقابله أي ثمن، وبالتالي سيكون القشة التي تقصم ظهر النظام برمّته وتعجل برحيله!
ولعل ما يزيد من تفاقم ورطة النظام الجزائري، ويدلل على تكلّس وهواية قادته، ترويجهم لوهم النجاح في مجاراة المغرب أفريقيا ودوليا، تحديدا في مجالات تنويع الاقتصاد المحلي، والاستثمار في المحيط الأفريقي. ويرجع اعتبار هذه المنافسة، المشروعة من حيث المبدأ، وهماً، إلى عدة اعتبارات أهمها، أن المغرب سبقه في هذه المجالات بعشرين عاما على الأقل ولن يستطيع النظام الجزائري تجاوزها خلال عشرين شهر مثلا؛ ناهيك على أنه يمتلك أدوات تأثير متعددة لا تقتصر على الجهات الحكومية، بل يشترك فيها القطاع الخاص والمجتمع المدني، وهو ما لا يتوفر بأي حال في الجزائر؛ وأخيرا إلى كون مقاربته الاستراتيجية في التعامل مع محيطه الأفريقي “تشاركية” لا يسعى فيها إلى الربح القصير المتفرد، بينما نظام الجزائر لا يتمرّس إلا في المقاربات “الفوقية” المبنية على شراء الذمم! وهو الأمر الذي يبدو جليا في مقاربتهما المختلفة في مشروعي الغاز النيجيري، حيث تعتمد الجزائر مقاربة منفردة تحصر الخط في جمهورية النيجر، بينما يروج المغرب لمشروعه الذي سيحقق استفادة 17 بلدا أفريقيا من عوائده!! وأخيرا، يغيب عن “دهاقنة” النظام الجزائري حقيقة مفادها، أنه لا يمكن الانتقال لمحاولة التأثير خارجيا قبل تحقيق نقلة نوعية في الأوضاع الداخلية، فالذي يفشل داخليا لن يستطيع إقناع أحد بإمكان نجاحه خارجيا!
علاوة على ما سبق، وبالنظر إلى محدودية خياراته داخليا وتعدد أوجه ورطته الخارجية، يعجز النظام عن مغادرة فلك المستعمر السابق “فرنسا”، وإن أعطى إيحاء زائفا بقدرته على تنويع شراكاته والانفتاح على روسيا والصين وبعض الدول الأوروبية كإيطاليا وبعض دول الجوار العربي كإيران وتركيا، حيث يعلم القاصي والداني أن هذه الدول مجتمعة لا تجد في الجزائر سوى مصدر للطاقة وسوقا لبضائعها الرائجة، ولا يصلح لاعتباره شريكا بأي معنى من المعاني! ومما يفاقم من هذه المعضلة بالأساس، كون الراعي أو “الكفيل” الفرنسي نفسه قد بدأ يفقد السيطرة على مناطق نفوذه الأفريقية “الضعيفة في مواجهته تقليديا” لصالح روسيا والولايات المتحدة والصين وغيرها، والأدهى أن ذلك قد تم في مواجهة ميليشيا روسية محدودة لا يزيد عدد أفرادها عن العشرات، وبواسطة ضباط أفارقة من رتب عسكرية دنيا، وما أمثلة مالي وبوركينا فاسو وغيرهما ببعيدة عنا.
إن نظاما لا يمتلك قراره الوطني المستقل، ولا يستطيع التصرف وفق ما تمليه عليه مصالحه الخاصة، سيعجز لا محالة عن كسب أي صراع يعود بالفائدة على مواطني بلده!
لقد كانت هذه مجرد عينة بسيطة من الأزمات المتعددة التي تشكل أبرز ملامح الورطة التي يتخبط فيها جنرالات الجزائر. ورغم صعوبة التنبؤ بمدى قدرتهم على كسب الوقت بشأنها، أو تأجيل دفع استحقاقاتها، وكذا استحالة الجزم بتوقيت تجدد “الثورة الشعبية” ضدهم، فإن الاحتمال الوحيد المتبقي، والذي قد يسهم في منح النظام مزيدا من الوقت، بعد استحالة الحديث عن “صحوة ذاتية”، يكمن في عملية تغيير هادئة أو عنيفة لمسار النظام برمته، إما نتيجة الرضوخ لتدخل صريح من الراعي الفرنسي، أو نتيجة انقلاب مماثل للذي حصل ضد الفريق الراحل القايد صالح، يوقف هدر الموازنة على صفقات التسلح المليارية، وينهي -أو يجمّد- حالة العداء للجار المغربي، و”يبيع” ورقة البوليساريو المحترقة بأي ثمن، وهو التغيير الذي سيوقف هدر مليارات الشعب الجزائري المستمرة منذ عقود، ويسهم في استدراك الفجوة التنموية الهائلة لأبناء الجزائر؛ فأي التغييرين ستجلبه الأيام القليلة المقبلة؟ الله وحده يعلم ما إذا كان التغيير الشكلي الخارجي سيسبق، أم أن شرفاء الجزائر داخل المؤسسة العسكرية ستكون لهم الكلمة العليا.. ننتظر ونرى!!