عندما انتقد الكثيرون -ونحن منهم- حالة “الهياج الدعائي” لوسائل الإعلام المرتبطة بالنظام الجزائري تجاه القمة العربية المرتقبة في بلادهم، كان ذلك من باب النصيحة، حتى لا تجد نفسها في الموقف الذي هي فيه اليوم! لكنهم في سعيهم لتسجيل أي انتصار دبلوماسي، حتى لو كان موهوما وزائفا، ينسب لجنرالات النظام، مدنيين وعسكريين، لعله يشفع لهم لدى رأي عام توجد القمة المنشودة في أسفل قائمة اهتماماته، اندفعوا “يطبّلون” لقمة “لم الشمل العربي” التي ستدشن مرحلة جديدة في العمل العربي المشترك، عبر “قرارات مصيرية” ستسهم في الحد من الآثار العالمية للتغير المناخي، وتجعل الدول العربية جميعها في مصاف دول “مجموعة العشرين” أو G20!
لقد طالبهم العقلاء -بالرغم من إدراكهم أن لا عاقل في الجهة المقابلة- أن يكفّوا عن تضخيم “لا حدث” القمة العربية، ويتعاملوا معه كحدث بروتوكولي مناسباتي لن يسفر -كالقمم الثلاثين السابقة- عن أي قرار يثير اهتمام أي مواطن عربي أو يسهم في تحسين ظروفه المعيشية. لكنهم، ومع حاجة من يدفعون رواتبهم ويوجهون أقلامهم لأي “انتصار” دبلوماسي وهمي، قاموا بعمل العكس.
لقد كانت البداية بـ”لا حدث” اجتماع الفصائل الفلسطينية، الذي صوّر على أنه اجتماع إنهاء الانقسام الفلسطيني، وتوحيد الفصائل الفلسطينية، وهو ما تبين زيفه قبل أن يغادر المجتمعون العاصمة الجزائرية، ولم يجد له أدنى صدى أو ترحيب في الشارع الفلسطيني، لاسيما مع هشاشة “النص الإنشائي العام” الذي صاغته يد الوسيط الجزائري “الدبلوماسي الفذّ”، دون أن ينجح في تقديم أي إجابة حقيقية لأي سؤال حقيقي يهم الفلسطينيين، فصائل ومواطنين. ورغم أن النتيجة الحتمية للاجتماع كانت معروفة سلفا، فقد بالغ الإعلام الجزائري الرسمي في مديح الاجتماع، وأسهبوا في التغزل بصورة الرئيس تبون يتوسط قادة الفصائل الفلسطينية وهم يرفعون أذرعهم المتشابكة، ويرسمون الابتسامة الصفراء المعهودة في مثل هذه الصور!
وبسبب “غباء” من يوجّه وينفّذ، وأمام معرفتهم المسبقة باستحالة خروج القمة بأي قرارات “مصيرية”، قامت الدبلوماسية الجزائرية ووسائل الإعلام المرتبطة بالنظام الجزائري، باختيار “رهان” احتضان الجزائر لقمة عربية “كاملة العدد” كعنوان لنجاح القمة المنشودة، بالتأكيد على أن الرئيس تبون قد تلقى شخصيا تأكيدات بالحضور الشخصي “لجميع” القادة العرب، بمن فيهم العاهل المغربي الملك محمد السادس، وهو ما اجتهدت منابر إعلامية فرنسية في التأكيد عليه مرارا وتكرارا “من مصادرها الموثوقة”! وعلى الرغم من بديهية أن العمر الافتراضي لهذه الأكاذيب لا يعدو كونه أياما، حيث ستظهر قاعة المؤتمر الحاضرين والمتغيبين من الرؤساء العرب، إلا أن الدبلوماسية والإعلام الجزائريين استمروا في ترداد أكذوبة “كامل العدد”، إلى أن جاء اعتذار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن الحضور، وتكليف وزير خارجيته برئاسة وفد بلاده للقمة، ليفرغ “سطلا من الثلج” على رؤوس أصحاب الدعاية الفاشلة، ويزيد من خشيتهم من حدوث “فضيحة” تعرّي “قمة لم الشمل العربي كاملة العدد”!
ولأن الحدث على بعد أقل من أسبوع، وأن ساعة الحقيقة قد بدأت تتأهب لتدقّ معلنة قائمة الحاضرين في القمة المنشودة، سمح النظام بتسريب ما يعلمه منذ توجيه الدعوات، وهي حقيقة غياب قادة الإمارات العربية المتحدة، سلطنة عمان، مملكة البحرين، دولة الكويت، وبشكل شبه مؤكد، العاهل المغربي، إضافة للملكة العربية السعودية، ولبنان التي شغر منصب الرئاسة فيها، وسوريا الممنوعة من الحضور، او ما مجموعه ثماني (8) دول، سيمثل سبع منها على مستويات أقل!
وبالانتباه إلى تفصيلة ان ثلاث دول عربية ترأسها سلطات انتقالية غير منتخبة، وهو ما يحرمها، أدبيا وبروتوكوليا على الأقل، من التمتع بصفة القادة المنتخبين، ونقصد جمهورية السودان، الجمهورية اليمينة، وليبيا، يصبح عدد الوفود التي لن يمثلها “القادة” فيها إحدى عشرة دولة، أو نصف الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية. ببساطة، يمكن للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن يحتفي -بالحد الأقصى- برؤساء عشر دول عربية، ويرسل إلى المطار من ينوب عنه في استقبال رؤساء عشرة وفود أخرى (وفقا لمعطيات اليوم القابلة للتغير)! وهو ما يمثل “تحطيما” لأسطورة “كامل العدد”!!
بل إن المستقبل قد يجلب للرئيس الجزائري مزيدا من “الراحة” والتخفف من الأعباء البروتوكولية، إذا ما قرر الرئيس المصري والعاهل الأردني إيفاد من ينوب عنهما في الحضور، وهو ما سيتيح للرئيس الجزائري الاستماع إلى النشيد الوطني لبلاده ثماني مرات فقط!! ويترك لرئيس وزرائه ووزير خارجيته استقبال الوفود الإثني عشر الأخرى! يا له من “نجاح مبكر للقمة كاملة العدد”!!
أخيرا، وإن كانت جميع الدول العربية وقادتها يتمتعون بنفس القدر من الاحترام البروتوكولي، ويملكون نفس الحق في الكلام خلال اجتماع القمة، إلا أن الواقع يقول إن هذه الدول تتفاوت من حيث الحجم والأهمية والتأثير! وعليه، يمكن بمراجعة بسيطة لقائمة الحاضرين والمتغيبين عن القمة أن يحكم على وزن وتأثير كلتا القائمتين!!
لكن أولا وأخيرا، فجنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، هم من رفعوا وكرّسوا معيار نجاح القمة “الوحيد” في حضور قادة الدول العربية المشاركة “شخصيا”، وهو التحدي الذي كانوا في غنى عنه، لو كان بينهم عاقل واكتفى بمراجعة سجلات حضور القمم السابقة، لمعرفة استحالة تحقيق شعار “كامل العدد” الذي روّجوه. لكن، ولأن هؤلاء الجنرالات، لا يملكون من أمرهم سوى شراء مزيد من الوقت أمام الشارع الجزائري اليقظ والمتحفز والواعي، فقد كانوا مضطرين، كالعادة، لتحقيق أي انتصار دعائي زائف، حتى لو كانت النتيجة، المعروفة سلفا، هي “فضيحة” جديدة، مثل كل ما سبقها من فضائح!!