في مثل هذه الأيام من عام 1988، خرجت أولى المظاهرات الشعبية من حي “باب الواد” العريق بالعاصمة الجزائرية، مطلقة شرارة احتجاجات اجتماعية عارمة على مدى أسبوع (5-12 أكتوبر)، عمت مختلف أحياء العاصمة، ناهيك عن مدن عنابة وقسنطينة ومنطقة القبايل، وغيرها. ورغم شدة القمع الذي مارسته قوات الأمن بحق المتظاهرين، موقعة قرابة 500 قتيل وبضعة آلاف من الجرحى، إلا أن صلابة إرادة أحرار الجزائر دفعت رأس النظام يومئذ الجنرال الشاذلي بن جديد إلى إقرار حزمة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية، قادت بعد عام إلى أول انتخابات تعددية، على إثر إنهاء نظام الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني).
ورغم اختلاف ما أطلقته وسائل الإعلام الجزائرية والدولية على الانتفاضة الشعبية من أسماء، وأشهرها “ثورة الخبز” و “خريف الغضب”، إلا أن الجميع يتفق على وجاهة ما قاد إليها من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متدهورة، لم تستطع السلطات المتعاقبة على معالجتها أو التخفيف من آثارها منذ الاستقلال.
وكالعادة، فإن منطق الثورات المضادة، في سعيه لتشويه الهبات الجماهيرية التي تعبر عن غضب المواطنين، لاسيما الفقراء منهم، تجاه الفساد، وسوء الإدارة في الدولة، وقمع الحريات، وتعطيل منظومة العدالة، وتدهور أوضاعهم المعيشية، وافتقارهم إلى أبسط الخدمات الإنسانية التي يخولها لهم مجرد الانتماء للوطن، فقد حرص إعلام النظام الجزائري، والذي يعتبر إلى حد بعيد صنيعة “رب الجزائر” الجنرال محمد مدين الملقب بـ”توفيق”، على أن يجعل الانتفاضة الشعبية لعام 1988سببا، ويحمله أوزار وآثام “العشرية السوداء”، التي أذاق فيها “جنرالات فرنسا” أبناء الشعب الجزائري الحر شتى صنوف العذاب، حبسا وتشريدا وتقتيلا، بعد أن قاموا بإلغاء نتيجة الدور الأول للانتخابات التعددية، وقاموا باصطناع “فزاعة الإرهاب” ممثلة في الجماعات الإسلامية المقاتلة، التي أشرفوا على تكوينها وتدريبها، وقاموا بتوجيهها إلى قتل أكبر عدد من المدنيين الأبرياء (تبعا لشهادات ضباط منشقين من الجيش والأمن والمخابرات الجزائرية) حتى ينقل الجزائريون ذكريات رعب تلك السنوات في “جيناتهم” ويورثوها لأبنائهم، ليرسخوا في الذاكرة الجمعية للجزائريين الثمن الباهض “للتمرد على سلطة جنرالات النظام الجزائري”!
والآن، وفي الذكرى الرابعة والثلاثين لهذه الانتفاضة الشعبية، التي أثبتت حيوية الشعب الجزائري واستعصائه على “التدجين”، وكذا إحساسه العالي بالكرامة وعزة النفس، لا يبدو أن جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، قد استوعبوا الدرس، أو أن لديهم أي حلول مبتكرة تسهم في ترسيخ الرفاه والكفاية والسلم الاجتماعي في أوساط الجزائريين. فمنذ الاستقلال، تمسك فرنسا، المستعمر السابق/ الحالي، بتلابيب السلطة الجزائرية وأجنحتها المؤثرة المتمثلة في: مؤسسة الرئاسة، مؤسسة الجيش، مؤسسة المخابرات، والتي تحولت منذ منتصف العقد الماضي إلى جناحين، بعد استحواذ الجيش على جهاز المخابرات، نتيجة لمعركة “كسر العظم” بين قائد الجيش الفريق الراحل أحمد قايد صالح، ورئيس المخابرات القوي الجنرال المتقاعد محمد مدين (توفيق).
تاريخ ممتد لقرابة ستة عقود، وهذا النظام يكتفي “بشراء الوقت” ومقاومة أي تغيير يذكر، مستفيدا من الطفرات النفطية المتعاقبة، لإجراء لمسات تجميلية على وجهه القبيح. فلا زال الجيش وجنرالاته هم المتحكمون بدواليب السلطة، وأصحاب الكلمة العليا فيها، ولا تزال مؤسسة الرئاسة تخضع عمليا لإملاءات الجيش، حتى بعد أن استبدلوا الرؤساء العسكريين (الجنرالات بومدين، بن جديد، وزروال)، برؤساء مدنيين (بوضياف، بوتفليقة، تبون). كما لا يزال النفط والغاز هو المصدر الوحيد لصادرات الجزائر وعملتها الصعبة (مجموع صادرات الجزائر خارج قطاع المحروقات بالكاد لامست مستوى 5 مليارات دولار فقط العام الماضي!!). ولا تزال “الرشاوى” الاجتماعية هي الأسلوب المعتمد في سنوات الطفرات النفطية، من قبيل زيادات الرواتب والمشاريع الاجتماعية من سكن وتعليم وصحة، والتي لا تكفي من جهة، لتلبية احتياج المواطنين الجزائريين، وتفقد، من جهة أخرى، قيمتها في نفس اللحظة بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، ولا تراعي مبادئ العدالة المجالية في مختلف مناطق الجزائر، ناهيك عن بعدها عن أي مفهوم حقيقي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. أما الفوائض النفطية، فسرعان ما “تتبخر” سريعا بسبب مشتريات السلاح (وعمولاتها الفلكية)، المشاريع الدعائية التي لا تدر دخلا، شراء الذمم لمعاكسة الوحدة الترابية للجار المغربي، في إطار مشروع عبثي قائم على “خرافة” مبدأ “دعم حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره”! وكأن حق الشعب الجزائري في اختيار حاكميه والتمتع بثرواته “منكر” ما أنزل الله به من سلطان، ولم تأت على ذكره أي شرائع أو مواثيق، إنسانية أو دولية أو دينية!
ورغم هذه الصورة القاتمة، فقد رد الشارع الجزائري الحي، على جنرالات نظامه المدنيين والعسكريين، بطريقة لا تقبل التأويل، عندما خرجت الملايين من أبنائه في فبراير 2019 وما بعدها، لترسل للممسكين بزمام النظام رسائل مهمة، يشدد أولها على مقولة “ما أشبه اليوم (2019) بالبارحة (1988)”! اما ثانيها فيؤكد لجنرالات النظام العسكري أن ذكريات إرهاب “العشرية السوداء” لم تسجل في “جيناتهم” كما توهم الجنرالات، بل في سجل جرائمهم التي سيحاكمون على أساسها في ظل أول نظام ديمقراطي عادل، يأمن فيه القضاة على أرواحهم! أما ثالث الرسائل فيقول أن صبر الشعب الجزائري على حلول النظام “الترقيعية” للاقتصاد قد نفذ، وأن ربط التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يزيد عن حاجة النظام العسكري من أموال الطفرات النفطية (مقابل سرقة وهدر الباقي) لم يعد خيارا مطروحا، بل المطلوب عملية تحديث شاملة ومتدرجه لهياكل وفلسفة العمل في إدارة الشأن العام برمته.
لا يريد الجزائريون، ولا يليق بهم، أن يبقى نظامهم “استثناء” صادما لأبسط المفاهيم الديمقراطية، حتى بالتعريف والشروط العربية للديمقراطية! فانتخاباتهم تحظى بأقل نسبة مشاركة (دليل وعي الشعب بألاعيب نظامه)؛ واقتصادهم من أقل الاقتصادات العربية والأفريقية تطورا، بحكم عدم قدرته -أو رغبته- في التخلص من مبادئ الاقتصاد الموجه الموروث من الحقبة الاشتراكية؛ ومساهمة وظروف عمل القطاع الخاص، ودرجة تطور بيئة عمله هي الأضعف ربما، اللهم إذا ما قورنت بنظيرتها في موزمبيق! ولا يزال متوسط أعمار قياداته، لاسيما قيادات الصف الأول يتجاوز السبعين عاما، في مجتمع بمثل شباب وحيوية المجتمع الجزائري! ولا تزال المعتقلات هي مصير كل من ينطق برأي مخالف لهوى السلطة، حتى لو لم يكن معارضا لها بالضرورة.
لقد آن الأوان، لقراءة جزائرية متجددة لانتفاضة الغضب الجزائرية عام 1988، ولنظيرتها الأنضج عام 2019، وهو الأمر الذي يحتم على “عقلاء” النظام، إن كان لا يزال من هو خارج القبور والمعتقلات منهم، أن يوقفوا لعبة “شراء الوقت” وسياسة “الهروب إلى الأمام”، ببساطة لأن المبدأ الأول (شراء الوقت) لا يؤدي إلا إلى مفاقمة المشاكل وتحويلها إلى أزمات وكوارث، أما المبدأ الثاني (الهروب إلى الأمام) فلا يقود إلا إلى الهاوية!!