شكلت ردة الفعل على صدمة “الانقلاب” في الموقف الكيني، المتمثل في دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي في الصحراء المغربية، دليلا آخر على عناد النظام الجزائري، واستمراره في رفض رؤية الواقع الحقيقي، واستغراقه في واقع افتراضي ينكر فشله في إدارة العلاقة مع الدول الأفريقية على مدى العقود الماضية. وما حالة الجدل حول حقيقة الموقف الكيني، إلا مثالا على مدى البؤس الذي وصله إعلام النظام الجزائري، الذي يرفض مجرد التفكير في احتمال أن يكون الرئيس الكيني الجديد، المتحمس لإقامة ما وصفها بنفسه “شراكة استراتيجية” مع المملكة المغربية، قد صحّح بسحب تغريدته، ما قد يعتبر، داخليا، تجاوزا في حق باقي السلطات الدبلوماسية والتشريعية التي لم تتشكل بعد! أي أنه ببساطة، تجنب أن يكون “قيس سعيد” جديد في شرق القارة!!
الآن، دعونا نذهب أبعد من ذلك، ونخرج من لغط كون كينيا قد قلبت المعطف كليا، أم اختارت الوقوف على الحياد، ونتساءل: هل تخفي هذه “الشجرة” الكينية، “غابة” الانتصارات المغربية على صعيد القارة الأفريقية برمتها؟! لنحاول الإجابة على هذا السؤال بتشخيص الواقع الحالي داخل دول القارة ال 54، منذ عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي.
تنقسم دول القارة الأفريقية في موقفها تجاه المنطق المغربي المتمسك بوحدته الترابية، ومنطق النظام الجزائري الراعي لجبهة “البوليساريو” وجمهوريتها المزعومة، إلى معسكرات كبرى ثلاثة: الأول يضم مجموعة أصدقاء المغرب ومساندي تبعية أقاليمه الجنوبية لسيادته الوطنية، ومبادرته للحكم الذاتي (وهي بالمناسبة مجموعة تضم طيفا واسعا من المواقف تعكس درجة تطور العلاقة مع المغرب: من ساندوا عودته للاتحاد الأفريقي عكس إرادة الجزائر وجنوب أفريقيا (39 دولة)، من يعترفون بمغربية الصحراء صراحة أو يؤيدون مبادرة الحكم الذاتي (36 دولة) ومن أقاموا بعثات دبلوماسية في الأقاليم الجنوبية (21 دولة)). اما المعسكر الثاني فيضم الأطراف المضادة للمواقف المغربية، وهو معسكر تعرض لضربات عدة نجحت في تقزيمه إلى (6 دول)، تحمل في “جينات” أنظمتها عقيدة العداء للمغرب -حتى هذه اللحظة!!-، وذلك بعد أن غادرها أصحاب المعسكر الثالث الذي يضم (10 دول) اختارت ما يسمى بموقف “الحياد الإيجابي” الذي يسعى لتقوية روابطه مع المغرب، دون أن يصل إلى حد إغضاب دول المعسكر الثاني، ولذلك يمكن أن تصدر عنه أحيانا إشارات قد تبدو متناقضة تجاه الموقف من الطرفين، ولتبقى (2 دولة) فقط متذبذبة في مواقفها بين معسكري الأعداء والمحايدين. ونتساءل هنا، هل هذا المشهد بمجمله يوحي بهزيمة المغرب أم بتقهقر أعدائه؟! ولمن يشككون في الأرقام السابقة، بسبب العناد أو الجهل، يمكن أن نغوص لاحقا في بعض التفاصيل.
قبل ذلك، من المفيد قراءة بعض المعطيات حول المقدمات التي أدت إلى هذه النتائج. لقد بدأت الخصومة حول الوحدة الترابية للمغرب من طرف نظام جارتها الشرقية، منذ ما يقرب من نصف قرن، في سياق دولي طابعه الحرب الباردة. وهكذا استطاعت الجزائر أن تحظى بفرصة اعتراف أزيد من ثمانين دولة تنتمي إلى المعسكر الاشتراكي بربيبتها “البوليساريو”، وبعدها بجمهوريتها الصحراوية الموهومة. وتوجت جهودها بضم هذا الكيان الوهمي إلى منظمة الوحدة الأفريقية بمساعدة “ملك ملوك أفريقيا وحكيمها” العقيد القذافي. الأمر الذي جعل المغرب يغادر هذه المنظمة، قبل أن يراجع قراءته للمشهد الواقعي، ويرصد حصاد الخسائر والغنائم التي ترتبت على مبدأ “المقعد الفارغ” الذي انتهجته على مدى ثلاثة عقود، وهو ما لا يحسن جنرالات الجزائر، المدنيين والعسكريين، فعله بالمناسبة!! مراجعة مغربية جعلته يقرر العودة للاتحاد الأفريقي عام 2012، ويحقق فعليا هذه العودة بعدها بخمس سنوات، بدعم أغلبية مطلقة تتجاوز نسبة الثلثين المطلوبة (39 من أصل 54). هنا اختلف المشهد كليا كما رأينا خلال السنوات الخمس الماضية، ونجح المغرب في إحداث “زلزال” جعله أحد أهم الأرقام الصعبة داخل القارة الأفريقية، إقليميا ودوليا. تغيرات استراتيجية ضخمة وقف النظام الجزائري عاجزا حيالها، واكتفى بموقف التابع لقطب هذا المعسكر “جنوب أفريقيا”، التي لا يهمها سوى إضعاف مقاومة المغرب لهيمنتها القارية! وأصبح أقصى ما يطمح إليه النظام الجزائري هو أن يتم استقبال دولة ما ل “دميته” الصحراوية، أو أن يصدر تصريح من هنا أو هناك يشيد ب “مواقفه الوطنية الداعمة لتحرر الشعوب”!!
لقد وصل الخصمان المغاربيان لهذه النتيجة، نتيجة “احتراف” الأول (المغرب)، و “هواية” الثاني (جنرالات الجزائر) واختلاف أساليبهما في العمل. وسنحاول تاليا رصد أهم هذه الاختلافات. بداية، القضية بالنسبة للمغرب هي قضيته المركزية، المتعلقة بوحدة ترابه وكرامته الوطنية، ولم تكن يوما في إطار المناكفة أو التحرش بالنظام الجزائري، وهو ما حدث نقيضه عند خصومه، حيث لم يستطع (ولم يكن ليستطيع) أن يقنع شعبه بأن إهدار مقدرات الجزائر في سبيل “نصرة الشعب الصحراوي الجار” هي “قضية وطنية”، لاسيما مع ما تحفظه ذاكرتهم الجمعية من مشاعر مودة صادقة لشركاء الدم والكفاح المغاربة على مدى قرون. وعليه، استطاع الموقف المغربي أن يجند المغاربة كافة في سبيل هذه القضية، ويحشد مختلف طاقاته الحكومية والأهلية وإمكانات قطاعه الخاص، في إطار رؤية ملكية شاملة لتحرك جديد على مستوى القارة الافريقية، وليس فقط داخل حدوده الوطنية، بينما وجد جنرالات الجزائر، المدنيين والعسكريين، أنفسهم يحاربون وحدهم، وجميع فئات وطاقات الشعب (المعطل معظمها من قبل نفس النظام منذ الاستقلال) اكتفت بالقعود والفرجة على “خيبات” جيشها “المظفر” المتتالية!!
لقد تحرك المغرب كفريق واحد، بتخصصات وأدوات متعددة، تحت قيادة واحدة، على امتداد جغرافيا القارة الأفريقية، فوقع الوزراء المغاربة ونظرائهم الأفارقة مذكرات التفاهم والتعاون في جميع القطاعات (البرلمان، الفلاحة، الصحة، التعليم، الأمن، الاستخبارات، الخ)، وقدمت شركات القطاع العام (الفوسفات، والماء والكهرباء، المطارات والسكك الحديدة، الخ) زبدة خبراتها وإمكاناتها لصالح تنمية بلدان القارة، وواكب ذلك قطاع خاص راكم تطورات هائلة على مدى عقود (البنوك، المقاولات، الطاقات المتجددة، الخ) بالاستثمار في المجالات الأكثر احتياجا بالنسبة لكل بلد على حدة، كل ذلك في إطار “تنمية القارة بأيدي أبنائها، وشراكات جنوب- جنوب، ومعادلات رابح- رابح” التي صاغها، بذكاء وإدراك عميقين، الملك محمد السادس، وطبقها فريقه بتواضع وندية ودون استعلاء! أما نظام الجنرالات الفاقد للبدائل داخليا وخارجيا، والذي أدمن العمل المنفرد، واستمرأ وضع الحاكم الأوحد، والاقتصاد الموجه المبني على مورد أوحد (النفط والغاز)، ولا يحسن إلا دفع الرشاوي للمسؤولين الأفارقة المستعدين للمتاجرة في مواقفهم، فقد وقف عاجزا وهو يرى تمدد المغرب في زمن قياسي على امتداد الجغرافيا الأفريقية شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، دون أن يمتلك خطة تستطيع حصر الخسائر أو حتى تأخير استحقاقاتها!
ولفهم الإحصائيات التي أوردناها في المقدمة، نقول إن المغرب، ورغم مغادرته لمقعده في الاتحاد القاري، حرص على الاحتفاظ بكتلة صلبة تستطيع المنافحة عن مواقفه في غيابه، وهي الكتلة التي طالما كانت محكومة باعتبارات الجغرافيا أو التاريخ أو اللغة، قبل أن يقرر ملكه إحداث نقلة نوعية، باعتماد استراتيجية الهجوم بدل الدفاع، والانفتاح على الدول التي لا تشترك معه في العناصر الثلاثة السابقة، ومهاجمة خصومه في عقر دارهم في وسط وشرق وجنوب القارة. لقد تحرك الملك محمد السادس شخصيا داخل القارة الأفريقية أكثر من أي زعيم أفريقي آخر، مما أهل المغرب ليحتل صدارة المستثمرين في القارة باستثمارات تجاوزت الثمانية مليار دولار، وفي مناطق تتجاوز ساحته الخلفية في غرب أفريقيا. وعليه، جاءت الموافقة على عودة المغرب لمقعده في الاتحاد الأفريقي “تحصيل حاصل”. والجميل في سلوك “المحترف” المغربي (عكس خصمه الشرقي)، أنه لا يركن إلى الدفاع بعد تسجيل هدف أو أكثر، بل يستمر في تسجيل مزيد من الأهداف، وإن لجأ إلى تهدئة اللعب أحيانا. وهو ما جسده انتقاله السريع من مشاريعه التنموية القارية، إلى مرحلة الانضمام إلى الاتحاد الأفريقي، ليتبعها بالتركيز على الدول المنضوية تحت راية خصومه، وينجح في تحويل مواقف غالبيتها إلى الحياد الإيجابي، لينتقل بعدها إلى مطالبة شركائه الأفارقة بتجسيد تأييدهم لمغربية الصحراء بالكلام الواضح والصريح، والأفعال التي لا تحتمل التأويل. وبعد هذه النجاحات، انتقل إلى تعميم هذه التجربة خارج حدود القارة.
أما مشكلة النظام الجزائري الذي تجاوز “تاريخ صلاحيته” منذ زمن بعيد، والتي تنضاف إلى مشاكله الهيكلية السابقة، فتتمثل في كونه لا يملك ما يقدمه لنظرائه الأفارقة، لا سلع ولا نموذجا ولا خبرات. فسلعته الوحيدة (النفط) تذهب إلى شركاء خارج القارة، وصادراته من السلع والخدمات، لا تلبي أبسط احتياجات أصغر دولة أفريقية، بحيث أنه لا يستطيع أصلا تلبية ولو جزء بسيط من احتياجات الجزائريين أنفسهم. ويكفي أن ندلل على تلك الحقيقة (في سياق المقارنة مع جاره المغربي)، أن نعرف أن مجموع صادرات الجزائر خارج القطاع النفطي، لم تتجاوز ال 5 مليارات دولار العام الماضي 2021، وهي تجاهد من أجل تحقيق حلم إيصالها إلى 7 مليارات في نهاية العام الحالي. في المقابل، نجح المغرب في تصدير سيارات بقيمة 5.4 مليار دولار خلال الشهور الستة الأولى من العام الحالي!! صادرات سلعة مغربية واحدة خلال نصف عام، أكثر من مجموع صادرات الجزائر بجميع أصنافها في عام كامل، ولا نظن أن هذا الرقم بحاجة لتعليق! كل ذلك دون الحديث عن الفرق في تطور القطاع الخاص، المنظومة التشريعية، البنية التحتية، النظام البنكي، التجربة العملية بين البلدين، وهو ما يفسر حاجة الأفارقة لعلاقات طيبة مع أشقائهم المغاربة، وعدم انتظارهم لأي شيء من نظرائهم في الجزائر.
وبعد
ان رتب المغرب أوراقه في فضائه المباشر في غرب أفريقيا، بعد أن نجح في تحييد القوتين الأهم فيه: نيجيريا وغانا، ونسج معهما علاقات اقتصادية استراتيجية، جاء الدور على شرق أفريقيا، الذي توجد دوله العربية (السودان والصومال وجيبوتي وأريتريا) ضمن الكتلة الصلبة للمغرب، ونجح في تحييد إثيوبيا إلى حد بعيد، ومعها تنزانيا، وتوج ذلك بشراكته الاستراتيجية المقبلة مع قطب المنطقة الأول: كينيا. وقبلها نجح في نسج علاقات استراتيجية في وسط القارة جعلت مواقفها تتراوح بين الدعم الصريح (تشاد وبوروندي وأفريقيا الوسطى وغيرهما)، أو الحياد الإيجابي كرواندا. ليترك الجزائر وأوغندا منفردتين في هذه المنطقة الشاسعة. وليأتي الدور بعدها على دول جنوب القارة، الساحة الخلفية لجنوب أفريقيا خصم المغرب الأبرز، والتي لطالما شكلت الكونغو الديمقراطية فيها، أبرز أعضاء كتلة المغرب الصلبة. وهنا أيضا، حقق المغرب اختراقات ضخمة بأن ضم إلى معسكر أصدقائه دولا كمالاوي ومدغشقر وزامبيا وسيشل وسوازيلاند واسواتيني، بينما اكتفى -مؤقتا- بموقف الحياد الإيجابي من دول مهمة كأنغولا وموزمبيق وموريشيوس، وليترك لجنوب أفريقيا أربعة حلفاء يدورون في فلكها (بوتسوانا، ليسوتو، زيمبابوي، وناميبيا)، وهي دول يقوم بعضها -بين الحين والآخر- بجس نبض المغرب بعبارات غزل رقيقة لا ترقى لاتخاذ مواقف عملية، دون أن تغلق الباب أمام قيام ذلك مستقبلا.
ختاما، ولأن “الصبر الاستراتيجي” صفة اللاعب المحترف، لا نجد المغرب متسرعا في قطف ثمار عمله الدؤوب، والمطالبة بطرد جمهورية الوهم من الاتحاد الأفريقي، رغم توفره على أغلبية ثلثي الأصوات المطلوبة، بل ينسق مع حلفائه القدامى والجدد حول التوقيت المناسب لقطف مثل هذه الثمرة، والتي ربما تستبقها دولة “محترفة” أخرى كجنوب أفريقيا، عندما تدرك عبث استمرار مواقفها العدائية، وتقوم بطرق باب المغرب من أجل “التفاهم” حول مجمل ملفات القارة! من يعلم؟ لننتظر ونرى!