في السياسة كما في حياتنا اليومية، تنطبق صفات “العقل” و “الجهالة” على الأصدقاء كما الخصوم، فنرى صديقا عاقلا وآخر جاهل، وخصما عاقلا ومثله جاهلا. بل تعلمنا من المأثور العربي القول المشهور: عدو عاقل خير من صديق جاهل!! نسوق هذا المدخل لنحاول وضع النظام الجزائري في إحدى المنزلتين بين العقل والجهالة بالنسبة لخصومه ومؤيديه.
بداية، لا تكمن مشكلة الأنظمة الأحادية في العالم كله، والنظام الجزائري أحد آخر بقاياها، في كونها تخضع لحكم طرف واحد كالجيش الواحد، أوالحزب الواحد، أو الفرد الواحد فحسب، بل في كون هذه العقيدة تنسحب على باقي أوجه الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها. فحياتها السياسية أفقر من أن تناقش، واقتصاد بلادها يعتمد غالبا على مورد واحد، حتى ولو رغب في التنويع مجاراة لمنطق العصر فيتحول الأوحد إلى مهيمن، وتترك بعض الفتات لأنشطة اقتصادية هزيلة على هامشه، كما أنها تصبغ الحياة الثقافية برمتها بأيديولوجية واحدة، اشتراكية كانت أم إسلامية أم ليبرالية أو قومية!!
وفي حالة النظام الجزائري، فقد جرب تاريخيا مختلف أطياف “الواحدية”، إن جاز التعبير. حيث إن الحزب الواحد (جبهة التحرير) انفرد بالحكم إثر الاستقلال، وأقصى جميع التيارات التي شاركت في الثورة، وأصبح المحتكر لثورة التحرير الوطنية. ومع انقلاب الرئيس الراحل هواري بومدين على شريكه الرئيس أحمد بن بلة، كان من السهل الانتقال إلى حكم الفرد الواحد، الذي قام بدوره (وفق نفس العقيدة) بتصفية جميع خصومه وشركائه في الثورة والحزب، بمساعدة “جنرالات فرنسا” كما يعرفهم الجزائريون. هذه الثلة من الجنرالات التي تدرجت بدورها في تثبيت دعائمها، والتخلص من منافسيها داخل مؤسسة الجيش والمخابرات، لم تعد تطيق شريكا، كيف لا وهي نتاج نفس العقيدة، وأعلنت عن نفسها حاكما أوحد في أعقاب إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي أعطت الأغلبية “لجبهة الإنقاذ الإسلامية”. والباقي تعرفونه جميعا، حيث قام الجيش بتنصيب واجهة مدنية إثر أخرى، في تمثيلية لا يوجد داخل أو خارج الجزائر من يقتنع بها، لاسيما وأنها أديرت بشكل مبتدئ ورديء.
ولأن الفقر والجهالة هي صفات لصيقة بجميع الأنظمة الأحادية، التي لا تستطيع العيش دون وجود خطر داخلي أو خارجي يهددها، عانى الشعب الجزائري العظيم، الطرف الحقيقي الذي دفع الفواتير الباهظة لحقبة الاستعمار الفرنسي و “وريثه المحلي”، من غياب تنمية حقيقية واقتصاد ناجح وتعليم غني، في غياب اقتصاد تعددي متنوع، وانسداد تام في الحياة السياسية، التي تشهد أحد أعلى نسب المقاطعة لمختلف انتخاباتها الصورية في العالم (دليل وعي الشعب وجهل النظام)، الأمر الذي قاد إلى الحراك الجماهيري المبهر، الذي تظافرت آلة القمع الرهيبة وظروف جائحة كورونا على إطفاء وهجه دون أن يخبو الجمر تحت رماده. وعلى الجبهة الخارجية، اتخذ النظام الجزائري من المغرب (وليس النظام المغربي) عدوا يبرر الإنفاق اللامحدود على موازنات الجيش غير المعلومة، وما تفتحه من أبواب النهب بالمليارات عبر عمولات صفقات السلاح، وليبرر للداخل ضعف التنمية المحلية وغياب التنمية الحقيقية. وحتى في الحقب التي كانت فيها أسعار النفط والغاز تحلق عاليا، كان النظام ينجح في امتصاصها بمضاعفة الإنفاق العسكري، وتضخيم أرصدة أركانه بعمولات الصفقات الهائلة، مع توجيه الفتات داخليا لإخماد احتجاج هنا أو تململ هناك. ولأن الأنظمة الفردية تعاني من الفقر الشامل، سوى من عوائد موردها الوحيد، وتعيش بتوجيهات القائد الملهم، فقد اقتصرت علاقاتها الخارجية على محاولة شراء ذمم بعض الأنظمة- التي تشبهها في الغالب- لتحاول صنع مكانة دولية لنفسها قابلة للتسويق الداخلي، وتغذية وطنية موهومة، وهو الأمر الذي كان يسيرا في حقبة الحرب الباردة مع وجود “أنظمة اشتراكية ثورية” مستعدة لمثل هذا النوع من العلاقة. واقع يتغير يوميا منذ ثلاثة عقود، دون أن يتفتق ذهن “القيادة الملهمة” للنظام الجزائري عن فكر بديل، وما طريقة تعامله مع نظام الرئيس قيس سعيد، وما يسوّقه عن دوره في دعم القضية الفلسطينية سوى مثال صارخ على أن هذا النظام لا يزال يعيش حقبة الستينات والسبعينات (شيك بمئة مليون دولار للسلطة الفلسطينية، وقرض بثلاثمئة مليون لتونس!!!).
ونصل لمحاولة الإجابة على التساؤل المطروح في العنوان: ماذا يمكن للنظام الجزائري أن يقدمه لأي طرف؟ على اعتبار أن الإجابة داخليا معروفة لملايين الجزائريين الذين خرجوا للشوارع للمطالبة بإسقاط هذا النظام، إيقانا منهم باستحالة تقديمه أي شيء. وهنا من المفيد المرور على مختلف الدوائر الخارجية واحدة فواحدة، ولنبدأ بالدول العربية، بصياغة السؤال بطريقة أخرى: ما الذي يوجد لدى النظام الجزائري، مما تحتاجه أنظمة وشعوب منطقته العربية، ويصلح أساسا لبناء علاقة تتجاوز برقيات التهنئة في عيد الاستقلال؟ وأي الأنظمة العربية، غير دكتاتور سوريا، يحتاج لمثل هذه العلاقة مع نظام من “مخلفات” الحرب الباردة؟!!
سياسيا، فقد انتهى الزمن الذي يكون للدول العظمى وكلاء داخل كل منطقة جغرافية كبيرة، يتحدثون باسمها ويؤثرون على أقطارها، وفق نظرية “المركز والأطراف”، وأصبح عالمنا العربي متعدد المراكز محدود الهوامش، وأصبح بإمكان معظم دوله نسج علاقاتها السياسية والاقتصادية من أقطاب العالم القوية، مباشرة ودون الحاجة لوساطة. أما سلعة الجزائر الوحيدة (النفط والغاز) فقد أصبح متاحا في جميع الدول العربية بدرجات متفاوتة، وانتفت حاجة معظم إن لم يكن كل جيران الجزائر لقبول مساومات نظامها مقابل مواقف سياسية مطلوبة. مأزق يجعل النظام الجزائري “يلعب على صغير” بشكل يسهم في مزيد تحجيمه، حيث يناكف دول الخليج بحديثه مع إيران، ويناكف مصر بعلاقته مع إثيوبيا، ولا يجد ورقة في نطاق عدائه السرمدي للمغرب سوى ابتزاز تونس!! غير مدرك أنه بسلوكه هذا لا يضر بمن يحاول مناكفتهم، بل بمن يحاول ابتزازهم!! أو ينسج معهم تحالفات وهمية.
نفس الأمر يتجلى بشكل واضح على علاقته مع جواره المباشر، فخطابه المستوحى من عصر ما قبل الصعود للقمر، عن “دعم الشعوب الثائرة وحقها في تقرير المصير”، معلوم لشعبه أولا وباقي شعوب وأنظمة المنطقة، أنه يتنافى مع حقائق التاريخ والجغرافيا، ومستجدات عالم السياسة والاقتصاد في عالمنا اليوم. فكيف لأحد أن يصدق خطابه الثوري القومي دفاعا عن “شعب” صحراوي “مفترض” يوجد معظمه في بلدهم الأم المغرب، وفي نفس الوقت يضحّي بمصالح وخيرات ومستقبل أزيد من مئة مليون مغاربي، بقطع خطوط التواصل الإنساني والتجاري بينهم، عبر إغلاق الحدود مع المغرب، وتعطيل هياكل وأعمال “اتحاد المغرب العربي”، والاستمرار في ابتزاز والضغط على الشركاء الأضعف في الاتحاد، من أجل إعطائه أي نصر معنوي زائف في “حربه الشاملة” مع جاره المغرب!!!
وبالانتقال إلى الدائرة الافريقية، ومع انتشار عدوى الديمقراطية في الكثير من أقطارها، تتقلص دائرة المستعدين للتعاطي مع “بضاعة” النظام الجزائري التي تشبهه، إلى بضع أنظمة من أشباهه، وآخر مثال على هذا الأمر ما حصل في كينيا منذ أيام، ليفقد نظام الجنرالات ركيزته في شرق أفريقيا على غرار المناطق والدول التي سبقتها. دائرة هشة، استطاع العاهل المغربي، وباقي مراكز الفعل السياسي والاقتصادي داخل المغرب،أن يهدم ما بناه النظام الجزائري فيها خلال أزيد من خمسين عاما في أقل من خمس سنوات!!!
والسؤال الافتراضي هنا، ما هي خطط النظام الجزائري عندما تهب رياح الديمقراطية على باقي الأنظمة الأفريقية التي تشبهه، ويجد نفسه في موقع شبيه بكوريا الشمالية في الشرق الآسيوي؟؟!! كيف سيتصرف عندما تقرر غالبية الثلثين في الاتحاد الأفريقي أنه آن الأوان لإنهاء هذا العبث الذي لا تقبل به جميع دول العالم المتحضر (قمم التنمية بين أفريقيا وكبار العالم كمثال، وآخرها ما حدث مع اليابان)، وطرد “جمهورية وهمية” لا تملك السيادة ولا السيطرة على غرف نوم قادتها؟؟!! وهو سيناريو شديد الواقعية والاحتمال، بل وقريب الحدوث جدا، ننتظر ونرى!!
وإذا جئنا إلى الدائرة الأوروبية، جيران الشمال، وبعد أن ينتهي انتشاء الرئيس الجزائري بصوره مع الرئيسين الإيطالي والفرنسي، وبعض كبار المسؤولين في أوروبا، الذي يعلمأن علاقتهم بنظامه ستبرد بمجرد انحسار فصل الشتاء وبدء تحسن الجو في بلادهم في الربيع المقبل، أي بعد حوالي ستة أشهر، إذ من غير المرجح أو المحتمل أن يستمر التأثير السلبي للحرب في أوكرانيا على قطاع الطاقة الأوروبية إلى الشتاء الموالي، يجب على النظام الجزائري أن يسأل نفسه: ماذا نستطيع أن نقدم للأوروبيين، بشكل يبرر لهم التعامل معنا؟! هل تستطيع فرنسا أن تفرض تصورها وتراعي مصالحها في عالم نفوذها المتهالك على شركائها الأوروبيين؟ هل يستطيع النظام الجزائري تحويل اقتصاده المغلق بمؤسساته المتحجرة إلى نظام يغري كبرى الشركات الأوروبية للاستثمار فيه، خلال أشهر معدودة، وفي ظل منافسة غير متكافئة مع قطبي شمال أفريقيا: المغرب ومصر، ومن ورائهما تونس، بل وليبيا بعد انتهاء الحرب (جهود إعادة الإعمار) وموريتانيا (مع اكتشافات الغاز الضخمة الأخيرة)؟ أسئلة وغيرها لا يوجد عاقل أو جاهل داخل النظام الجزائري وخارجه يمكن أن يجيب عليها بشكل متفائل! ولا يغرّن هذا النظام أن هناك من يستمع لهرائه حول جهوده في مكافحة الإرهاب في الصحراء الكبرى، وهو الخطاب الذي يثير ضحك واستهزاء مستمعيه وإن جاملوه بالصمت، لأن ما لديهم من تقارير تثبت ضلوع هذا النظام مباشرة (المخابرات الجزائرية) وعبر وكلائه (جبهة البوليساريو) في تشكيل ومساعدة وتغذية هذا الإرهاب العابر للصحراء الكبرى، وفي أفضل الحالات، عجزه عن تقديم أي مساعدة تذكر في هذا المجال.
ختاما، لا يمكن بحال من الأحوال لأي نظام يفتقر لأبسط مقومات القوة داخليا (القمع والتنكيل ليس من ضمن مظاهر القوة بالمناسبة)، أن يمتلك أدنى مقومات القوة في علاقاته الخارجية. ولهذا، فهو محكوم في حركته ضمن نطاق “ردود الأفعال” داخليا وخارجيا، بسبب افتقاره للرؤية والبصيرة، بسبب طبيعته الأحادية وباقي ما أوردناه في المقدمة. سنّة لن تستثني النظام الجزائري من مفاعيلها، وسنشهد، كما شهدنا في عشرات التجارب والقصص على مر التاريخ القديم والحديث، نهاية هذا النظام بسواعد أبنائه وضحاياه، لأنه ببساطة، أوهن من بيت العنكبوت!!