“المنصة الرقمية للحديث النبوي الشريف” بتوجيه من جلالة الملك، هي إضافة نوعية في مسار إصلاح الحقل الديني… والذي هو رافعة هيكلية من روافع المشروع الإصلاحي والتحديثي والذي يقوده، وبمنجزات وبفعالية، جلالة الملك، منذ أزيد من عقدين.
هذه المرة يتعلق الأمر بإعمال “التنقيح” في متن الركن الأساسي، الثاني، في مرجعية الشريعة الإسلامية بل والثقافة الإسلامية، برمتها، وخاصة في تأثيرها على السلوكيات الاجتماعية للمسلم… إعمال “التنقيح” للتدخل” في متن الحديث لشفط الزوائد التي علقت به على مدى قرون، وقد تسربت إلى نسيجه من “فتحة” الرواية… والرواية منطلقها الذاكرة، بقوتها وضعفها، كونها فعل بشري، حفلت بالخطأ والصواب، بالقوة وبالضعف، وبالصحيح وبالمختلق.
وللرواية أيضا حظها من العفوية ومن القصدية، ولها قابليتها للتوظيف السياسي والمذهبي… خاصة وتاريخ الدولة الإسلامية هو تاريخ صراعات الشرعيات السياسية المستجيرة بالشرعيات الدينية… و”الحديث” كان فيها أداة التحريض والتعبئة، بالحق وأيضا بالباطل… ولذلك وجب، في الحديث، التمييز بين الصحيح فيه وبين الضعيف منه وبين الموضوع.
“صحيح البخاري”، والذي كان له الأفضلية بين “صحيحين” آخرين، لمسلم ولأحمد… ذلك “الصحيح” دفع دارسون باعتلاله وشككوا في “صحته”…. وهو اليوم أمام التمحيص العلمي في مصداقيته و”حقيقة” صحته.
البعد الزمني بين زمن حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبين أزمنة تدوين أحاديثه ونقلها عن روايات متصلة مرات ومتقطعة مرات أخرى، وصحيحة الإسناد مرات وضعيفة سند الروايات مرات، وصولا إلى تلك المتفق على وضعها واختلاقها… هي عناصر ترافع في اتجاه الانتباه إلى ما خالط الأحاديث النبوية من توليدات لأحاديث منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم، زورا وباطلا… أحاديث كان لها، وما يزال، آثار مضرة بجوهر الثقافة الإسلامية… الثقافة التي روافعها هي تكريم الإنسان والتزام العدالة، بكل مستوياتها وأبعادها، بين الشعب الواحد وبين الإنسانية معمرة هذه الأرض… ويتفرع عن تلك الروافع، نبذ “ثقافة” الكراهية وإعلاء قيم الأخوة، واحتضانها للاختلافات الدينية والتسامح بين تعبيراتها… تحت عنوان “التسامح والتفاعل بين أهل الكتاب”.
الأحاديث النبوية المختلقة والتي، عبر قرون، تسربت إلى “المتن” الاعتيادي، الاستهلاكي، الحياتي “للثقافة” الإسلامية في حياة المسلمين… وسادت، لدى أكثرهم، على جوهر المقاصد الإسلامية، بل وحرفت مراميها… بحيث هال الأمر باحثون ودارسون، إلى درجة التنبيه للتمييز بين إسلام النص وإسلام الممارسة الواقعية… وهذا مبحث عريض، عميق وشاسع، له مجالات تناوله غير هذا المقال.
نعود إلى “المنصة الرقمية للحديث النبوي الشريف” التي أطلقتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قبل أسابيع، وبتوجيهات، لإحداثها، من جلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين… هي إنجاز قوي الأهمية في الإستراتيجية الملكية لإصلاح الحقل الديني… إصلاح الحقل الديني، ليس وحسب في جانب العبادات منه… ولكن أساسا في صلته بالمعاملات الاجتماعية… المعاملات التي تنفذ إلى صلة المواطن بوطنه ولعلاقاته مع مواطنيه… للاسهام في تأطيرها إيجابا بمحاولة إغنائها وإثمارها.
عناوين كثيرة وهامة لرؤية إصلاح الحقل الديني، التي جعل منها جلالة الملك محمد السادس إحدى روافع مشروعه الإصلاحي الحداثي للمغرب، والتي تدبر تحقيقها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية… من بينها، تأطير المساجد من حيث التسيير والإنشاء، تكوين الأئمة، تكوين المرشدات، فتح المساجد لمحاربة الأمية، إنشاء الأدوات السمعية البصرية المساعدة على تبييئ موجهات الثقافة الإسلامية في مقومات ومعطيات ومسارات معيشنا في عصرنا والإسهام في النهوض بطموحاتنا فيه… إنشاء فضاءات ومؤسسات ثقافية تحفز على تجسير العلاقات، داخل “المدينة”، بين الديني والثقافي وبين الدين والدنيا.
و”المنصة الرقمية الخاصة بالحديث النبوي” هي ليست مجرد عنوان آخر في خطة إصلاحية للممارسة الدينية في بعديها الاجتماعي والثقافي المغربين، وحصريا… إنها نقلة نوعية إضافية في المرجعية الثقافية الدينية الإسلامية عامة… لأنها منصوبة في الفضاء الرقمي، المفتوح على العالم وهي متاحة للاستفادة منها، لكل سائل، متسائل، باحث، مهتم أو دارس، عن أو حول وفي الحديث النبوي.. وخاصة أنها اجتهاد من علماء المغرب في تنقيح متن الحديث النبوي من غير المتفق عليه ومن الضعيف فيه ومن المختلق… من كل ما تسرب إليه أو رسب فيه من أحاديث مكذوبة أو ضعيفة السند.
إنها محاولة، قابلة لأن تنتج في الممارسة وعبر التفاعل معها، بالأسئلة وبالتدقيقات والتصويبات في أروقة المنصة وبالتعامل مع 10 آلاف حديث، التي انطلقت بها… أن تنتج “صحيح” للأحاديث النبوية المنيرة للمعاملات والموجهة لصحيح الدين في هذا العصر… وبعد إثنا عشر قرنا على إنتاج “الصحيح” الأول للأحاديث… صحيح الدين الذي ينفع المسلم في علاقاته مع ربه، يغذيه روحيا، يهذب سلوكه ويشحن إنسانيته بقيم التضامن والتفاعل والتسامح مع الإنسانية ومع مواطنيه.
ولعل المسار الناجح لبرنامج المراجعة الدينية والفكرية الذي ترعاه المندوبية العامة لإدارة السجون، والموجه إلى المعتقلين قي قضايا الإرهاب… لعله مثال ملموس على إمكانية استئصال أورام الجهل والتجهيل من “عقول” المعنيين وزرع وعي جديد داخلها… وعي إنساني أولا ومواطني ثانيا بمرجعية دينية أصلية، قويمة وسليمة… مرجعية يشكل الحديث النبوي الصحيح ثاني أهم مقوماتها وموجهاتها في العبادات وفي المعاملات… إنه اختبار ناجح في دائرة محدودة… ونتائجه قابلة للتعميم… لتجفيف المنابع التعبوية للإرهاب ولتعقيم منافذ الجهل في معاملات الناس المتصلة بدينهم والضرورية لدنياهم.
“منصة الأحاديث النبوية” حدث تاريخي… يساعد على الفعل الواعي، السليم والسامي في التاريخ.