كما كانت تجربة تونس خلال ما كان يسمى الربيع العربي فريدة من نوعها، يبدو أن الإنتخابات التشريعية والرئاسية لهذه السنة في تونس فريدة من نوعها أيضًا لمفارقاتها العديدة.
لقد كانت الجولة الأولى من الرئاسيات مفارقة من حيث مسارها ونتائجها، على حد سواء.
فعلى مستوى المسار، لأول مرة يخوض فيها مرشح للرئاسيات المعترك من داخل السجن، وهو نبيل القروي المتهم بالتهرب الضريبي وتبييض أموال، وما لا يعلمه إلا الله بعد الحديث عن وثائق سرية لوزارة الخارجية الأمريكية يتم تداولها بقوة على مواقع التواصل الإجتماعي تفيد أن القروي قد تعاقد مع أحد رجال الموساد الإسرائيلي للقيام بالضغط على أمريكا وربما غيرها أيضًا من أجل دعمه في الرئاسيات التي يخوضها.
القروي الذي يتزعم حزب ” قلب تونس” الذي أسسه حديثا جدا اتهم بدوره حركة النهضة بأنها وراء العمل على إقصائه من السباق الإنتخابي. ووعد التونسيين بأنه سيفتح ملفات سياسية عديدة يتهم النهضة بالتورط فيها مثل الإغتيالات السياسية وتنظيم تهجير المقاتلين التونسيين إلى بؤر النزاع والحرب، في العراق وسورية لخدمة أجندات إرهابية.
ومن هذا المنظور، فإن عملية الزج به في السجن لا تعدو كونها ضربة استباقية من حركة النهضة وقوى الدولة التي تأتمر بأوامرها لتحقيق مسعى الهروب من مواجهة ساعة الحقيقة في حال فوزه في الإستحقاق الإنتخابي الرئاسي.
غير أن حركة النهضة قد حاولت التهرب من وزر هذه التهمة بإعلانها مساندة إطلاق سراح نبيل القروي لخوض الحملة الإنتخابية في الدورة الثانية للرئاسيات التي استطاع أن يصل إليها، رغم تواجده في السجن، وعدم إطلاق سراحه إلى حد الساعة. الأمر الذي اعتبره بعض المراقبين شائبة في التجربة الديمقراطية التونسية غير المكتملة أصلًا.
وعلى مستوى المسار أيضًا، هناك ارتباك حقيقي واجهته حركة النهضة التي راهنت في الواقع على مرشحين اثنين في آن واحد: مرشحها الرسمي الشيخ عبد الفتاح مورو، ومرشح لم يتم تبنيه بشكل علني، غير أنه المفضل لديها بعد مورو، على سبيل الإحتياط، وهو قيس سعيد الأستاذ الجامعي للقانون الدستوري المعروف بأطروحاته المحافظة على مختلف المجالات وخاصة بخصوص المساواة بين الجنسين التي شكلت إحدى قضايا الإستقطاب في الشارع السياسي التونسي بعد إعلان الرئيس التونسي الراحل باجي قايد السبسي دعمه للمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى.
أما على مستوى النتائج، فيمكن الحديث عن المفارقات الأساسية التالية:
أولًا، تصدر قيس سعيد نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية رغم أنه لا يستند إلى حزب سياسي رسمي. وقد مال محللون سياسيون إلى تفسير ذلك بأن الشباب التونسي المحبط من تجربة حكم الأحزاب خلال السنوات الثمانية الماضية هم الذين هبوا لنصرة رجل جاء من خارج المؤسسات الرسمية، متحديا كل الأفكار المسبقة حول كون الأحزاب السياسية وحدها القادرة على إقناع الناخب في معركة سياسية حاسمة مثل معركة الرئاسيات.
ثانيا، كما تم الإشارة إلى ذلك من قبل، فوز نبيل القروي في السباق الرئاسي وأهليته لخوض الدورة الثانية، وهو ما شكل في حد ذاته مفاجأة لأن الرجل لم يستطع قيادة حملته الإنتخابية بنفسه ووجه بحملة إعلامية قوية من قبل خصومه، ومع ذلك استطاع أن يتقدم على حزب النهضة المعروف بقدرته الفائقة في مجال تنظيم الحملات الإنتخابية.
وقد كان للمفارقة الأولى والثانية انعكاسات هامة على مستوى تحديد السلوك السياسي لمجمل قوى المشهد السياسي في تونس. ولعل أهمها على الإطلاق إعلان حركة النهضة الإسلامية دعم المرشح الرئاسي قيس سعيد في مواجهة نبيل القروي العدو اللدود للنهضة. وإعلان نبيل القروي، في المقابل، ومن داخل المعتقل رفضه القاطع لعقد أي تحالف من أي نوع كان مع حركة النهضة في حال فوزه في الإنتخابات وخاصة الإنتخابات التشريعية التي ستشهدها تونس يوم الأحد حيث المواجهة الحقيقية بين حركة النهضة وبين حزب قلب تونس.
وبطبيعة الحال، فإن إدراك حركة النهضة لأهمية هذا الإستحقاق قد جعلها تحشد كل قواها الممكنة لربح هذا الرهان. وفي هذا السياق حاولت مغازلة الشباب الذي رجح كفة قيس سعيد في الدورة الأولى من الرئاسيات، من خلال الإيحاء بأن فوز سعيد لن تكون له أي قيمة حقيقية، ما لم يتم تعزيز القوى المؤيدة له لتشكيل قوة حقيقية داخل البرلمان تمكنها من قيادة حكومة غير مناوئة للرئيس على افتراض فوز الأستاذ الجامعي. وهذا يعني أن الخيار الوحيد أمام منتخبي الرئيس الجديد هو دعم حركة النهضة التي أعلنت دعمها الصريح والواضح لقيس سعيد. ذلك أن التصويت لفائدة حزب قلب تونس يعني وضع الرئيس الذي ترجح حركة النهضة فوزه في حالة من العزلة التي تمنعه من ممارسة الحكم، إن تؤد إلى عزله في نهاية المطاف، في حال قامت القوى العلمانية المختلفة بالتكتل في مواجهته.
وليس يليق إنهاء هذه المطالعة السريعة عشية الإنتخابات التشريعية التونسية وفي أفق الدورة الثانية من الرئاسيات دون الإشارة إلى مفارقة أخرى يمكن اعتبارها من مكر التاريخ.
ذلك أن الشيخ راشد الغنوشي نفسه قرر الدخول بنفسه إلى حلبة المعركة التشريعية بالدائرة الأولى في تونس العاصمة أملًا في تحفيز أنصاره على التعبئة لاكتساح الدائرة حتى يكون الصوت الأقوى في البرلمان التونسي في المرحلة المقبلة. لكنه، قد وجد نفسه وجها لوجه مع أرملة شكري بلعيد الذي تم اغتياله سابقًا وأشارت أصابع الإتهام إلى دوائر داخل حركة النهضة باعتبارها مسؤولة عن عملية الإغتيال.
ولم تخف اليوم بسمة الخلفاوي أرملة شكري بلعيد أن هدفها الأساس هو إسقاط الغنوشي في هذه الإنتخابات. فهل تكون قادرة على تحقيق أمنيتها؟ ليس سهلًا تقديم جواب إيجابي على هذا السؤال. غير أنه لا أحد بإمكانه منع حدوث مفارقة أخرى ضمن سلسلة المفارقات التونسية التي لا تنتهي.