الرئيسية / وجهات نظر / اليسار الفوضوي يجرب اللعب بنار الجيش في إسبانيا
بوديموس

اليسار الفوضوي يجرب اللعب بنار الجيش في إسبانيا

يخشى محللون سياسيون إسبان، عواقب تصرفات استفزازية تواترت في المدة الأخيرة، مصدرها قادة حزب “بوديموس” وحلفاؤهم اليساريون، حيال القوات المسلحة الإسبانية؛ تحملتها هذه الأخيرة بصبر وضبط للنفس؛ لتلافي الوقوع في الفخ المنصوب لها وأن لا تكون المؤسسة المدافعة عن حياض الوطن سببا في تأزم الوضع أكثر مما هو عليه، لا سيما وأن البلاد تواجه تحديات كبرى وبدون سلطة تنفيذية مستقرة منذ أكثر من نصف سنة.
ولم تكتف الحركة التي يقودها، بابلو إيغليسياس، والمساندون له بإشهار قناعاتهم الإيديولوجية المناهضة للحرب على غرار تنظيمات يسارية دولية، وإنما مضوا بعيدا في اللعب بنيران الجيش الإسباني، بمحاولاتهم المتكررة حفر خندق عميق بين الشعب وقواته المسلحة، باللجوء،وهنا مكمن الخطر الكبير، إلى النبش في ملفات الماضي المأساوي واستعادة أهوال ومآسي الحرب الأهلية. سلوك اعتبره كثيرون خفة وعبثا بروح الوئام الوطني بل تحريضا للشعب على كراهية المؤسسة العسكرية بما تمثله من موقع مركزي في وجدان وضمائر الإسبان، ماضيا حاضرا واستقبالا.
وقد يخامر الجيش الإسباني شعور أنه بات مستهدفا نتيجة فعل فاعل، وبالتالي فهو عرضة للغمز واللمز من طرف تنظيمات يسارية فوضوية؛ اتخذ منحى تصاعديا منذ تفاقم الأزمة السياسية في إقليم “كاتالونيا” وتهديد الانفصاليين فيها بإعلان جمهوريتهم المستقلة، في ظرف لا يتعدى 18 شهرا، منذ تاريخ تصويت البرلمان المحلي على مطلب الاستقلال، على أن يتم خلال فترة انتقالية التفاوض مع الحكومة المركزية لنقل السلطة وإرساء أسس الدولة الجديدة.
ولا يبالي دعاة الانفصال في الإقليم، في ذروة حماسهم القومي والإيديولوجي، بتبعات وعواقب انسلاخهم عن الشعب الإسباني والمس بوحدته الترابية بكيفية انفرادية. إنهم يتجاوزون سقف الحق المشروع في التعبير عن مقومات الهوية الإقليمية وبلورتها في إجراءات سياسية تتعايش في سلام مع الهويات القومية الأخرى فوق ثرى الوطن الواحد.
وإذا كان ملك إسبانيا وهو رمز سيادة الدولة، قد حرص منذ توليه العرش، على التهدئة وإخماد نار فتنة محتملة، فخاطب المكون العاطفي الجمعي من خلال تذكيره بالأمجاد التي حققها الأسلاف بوحدتهم وتضامنهم، معربا عن الأمل في تجاوز الأزمة العابرة والتأكيد على أن قوة الإسبان تكمن في وحدتهم أرضا وشعبا .
لكن القوات المسلحة وجدت نفسها، بعد أن تصاعد اللغط، مجبرة على الحديث، وقد كثرت إشارات الاستفزاز الموجهة إليها في فترة ما قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة؛ أطلقها الانفصاليون.
ذكرت المؤسسة العسكرية بواجبها الدستوري في الدفاع عن وحدة وراية الوطن، بكل الوسائل التي يحددها القانون الأسمى للبلاد، من خلال السلطتين التشريعية والتنفيذية المعبرتين عن إرادة الأمة. ورد ذلك على لسان وزير الدفاع الحالي، وهو مهندس مدني، والقائد العام للجيوش، كلاهما تناغما مع موقف ملك البلاد
لم يصغ الحزب الفتي إلى التحذير المبطن بل أمعن في الاستفزاز واتخذ قرارات غريبة من قبيل ضمه إلى صفوفه القائد العام الأسبق للجيش الإسباني الجنرال، خوصي خوليو رودريغيث.
رشحه على قائمته في انتخابات 20 ديسمبر دون أن يفوز،ليتكرر الترشيح في الانتخابات المقبلة بوضعه على رأس القائمة المشتركة بين، بوديموس واليسار الموحد، بمدينة “إلميرية ” (الأندلس) ما سيضمن له مقعدا في مجلس النواب المقبل.
لا يعرف بالضبط سبب تشبث، بابلو إيغليسياس، بترشيح قائد الجيش الأسبق، وقد لقي اعتراضا من بعض المنتسبين لحزبه وتحفظا من حليفه “اليسار الموحد” مثلما استغرب محللون

إصراره على عسكرة جزئية لقوائمه الانتخابية .
قد يكون السبب أن الجنرال المتقاعد هو مرشحه لتقلد منصب وزير الدفاع في حكومة اليسار التي يأمل “بوديموس” أن يحتل فيها موقعا مركزيا.
لقد أثار انضمام الضابط الأسمى لحزب يمثل بوضوح اليسار الشعبوي الفوضوي والجمهوري، تساؤلات واستنكارا صامتا بين رفاق السلاح وبين قطاعات واسعة من الرأي العام الإسباني.جرت العادة أن ينسحب القادة العسكريون الكبار من تقلدوا مناصب حساسة،إلى الظل لتدوين مذكراتهم أو الانخراط في منظمات المجتمع المدني، على اعتبار أنهم يظلون مطوقين بواجب  التحفظ مدى الحياة، مؤتمنين رمزيا على أسرار الدفاع الوطني .
صحيح أن الجنرال “رودريغيث” لم يعد له أي تأثير عسكري وقد ارتدى لباسا مدنيا، كما أنه مشهور بكونه يمثل جناح المثقفين في القوات المسلحة، إذ كان شغوفا بالقراءة ومتسما بروح الانضباط في العمل. قد يكون هذا الضابط الكبير، تشبع بالقيم الفكرية التي تنبذ استعمال القوة وتعارض الإفراط في الإنفاق على التسليح على حساب المرافق والخدمات المجتمعية. تلك صفات كانت حتما وراء اختياره قائدا عاما للجيش من قبل وزيرة الدفاع الاشتراكية في حكومة خوصي لويس ثباطيرو السنيورة “كارمي شاكون”  اعتمدت عليه لتسريع تنفيذ انسحاب الوحدات الإسبانية من العراق وأفغانستان، تنفيذا لوعد انتخابي قاطع من أمين عام الحزب الاشتراكي رئيس الوزراء.
وكان ممكنا أن يمر التحاق جنرال بتنظيم بوديموس، بدون جلبة ولا ضوضاء، ما لم يتعمد ذلك زعيم بوديموس؛ متوهما أنه استطاع فتح ثغرة في جدار المؤسسة العسكرية المنيعة التي لا يتدخل أحد على في كيفية تدبيرها لشؤون الدفاع عن الوطن ،احتراما لتقليد صار متبعا بين الإسبان بعد تصالحهم مع قواتهم المسلحة وطيهم صفحات الماضي بكل ما فيه من آلام.
أصبحت القوات المسلحة الإسبانية في عهد الديمقراطية، رمزا للشجاعة والكفاءة المهنية والانضباط والتضحية؛ وتوارى من صفوفها شبح انقلاب أو تمرد على الشرعية خاصة وقد أصبحت جزءا من منظومة الدفاع الغربية.

لقد كشف احتفال الجيش الإسباني قبل أيام، بعيده التقليدي، عن مؤشرات أزمة ثقة بينه وبين اليسار الجذري الذي لا يريد التخلص من عقدة الحرب الأهلية وتحميل الجيش مسؤولية الإطاحة بالنظام الجمهوري وإغراق البلاد مدة ثلاث سنوات في حرب دموية طاحنة.
طالب اليسار مثلا بإلغاء تلك المناسبة الاحتفالية ودمجها ضمن ذكرى اليوم الوطني التي تصادف يوم الاستفتاء في شهر أكتوبر، على الدستور الحالي عام 1978. انتقد اليسار أيضا الكلفة المالية المرصودة لتنظيم استعراض تشارك فيه عادة أفرع القوات المسلحة،علما أن القيادة العسكرية قلصت الميزانية إلى مبلغ رمزي هذه السنة بسبب الأزمة المالية، وبتوجيه من الملك فيليبي السادس القائد الأعلى للجيش.
وفي سياق ذي صلة، لوحظ أن اليسار المتطرف بأطيافه المتنافرة، احتفل هذه السنة بذكرى قيام الجمهورية الثانية في إسبانيا فرفع أعلامها في عدد من المدن التي يسير مجالسها البلدية منتخبون من بوديموس وحلفائهم. خطوة لم ينظر إليها الجيش بعين الرضى.
من المؤكد أن السيناريو الكارثي، لن يتكرر في إسبانيا. سيظل الجيش حاميا للديمقراطية، بمنأى عن المعارك الحزبية؛ غير أنه قد يجد نفسه في يوم من الأيام موزعا بين إشكالية الإخلاص للوطن وقسمه التاريخي، وبين الامتثال لإرادة الشعب التي قد تفرزها صناديق الاقتراع؟ فهل يلقي السلاح ويعلن استسلامه لسلطة أحزاب تسعى لتقسيم البلاد وإعلان الجمهورية وقيام نظام سياسي مستوحى من تراث “معمر القذافي” و”هوغو شافيث”؟؟؟