من كان يصدق أن يتحول المسجد من بيت للعبادة والطمأنينة إلى فضاء تُنسج فيه علاقات مشبوهة وتصاغ فيه الدسائس.. نعم، هذا الأمر يحصل داخل ردهات المسجد الكبير بباريس، والذي تديره الجزائر لحساب أجندتها السياسية والدينية وتعمل على جعله منبرا لمهاجمة المغرب وخدمة السلطة السياسية في فرنسا.
لقد فاحت رائحة الفضيحة وأصبح الجزائري شمس الدين حفيظ عميد مسجد باريس الكبير غارقا في الفساد، بحسب ما أعرب عنه الشارع الجزائري وبعض المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني، ثم وصلت الفضيحة إلى البرلمان.
نعم إلى البرلمان.. لقد جرّ نائب جزائري يدعى عبد الوهاب اليعقوبي، وزير الشؤون الدينية والأوقاف ببلاده يوسف بلمهدي إلى المساءلة البرلمانية، قصد معرفة مصير مليارات الدولارات التي تنفقها الجزائر على هذه المؤسسة الدينية.
وتساءل النائب عن مقدار الدعم المخصص لهذه المؤسسة؟ وكيف يتم ضمان مراقبة الإنفاق والموازنة فيها؟ بالإضافة إلى المعايير التي يتم اعتمادها لاختيار عميد المسجد الكبير بباريس؟.
هي تساؤلات مشروعة في ظل الغموض الكبير الذي يلف حجم الإنفاق على المسجد الكبير بباريس وخلفيات ذلك.
ووصل التذمر أيضاً إلى الأقلام المأجورة للعسكر والتي أفادت بأن المسجد الكبير “تحول إلى نادٍ خاص تنظم فيه حفلات العشاء وتُبرم داخل ردهاته صفقات تجارية كما تُعقد اجتماعات الشركات بشكل منتظم، بعيدًا عن أي اعتبار مرتبط بالإيمان والتفاني”.
وباستحضار هذه النقطة لابد من العودة إلى التاريخ الحقيقي وليس التاريخ المزور الذي يعتمده نظام تبون، فالمسجد الكبير في باريس ليس ملكاً للجزائر، ففي العام 1926، افتتح السلطان العلوي مولاي يوسف بن الحسن هذا المسجد بنفسه، كما أن المغرب هو من موّل بناء المسجد، وأشرف عليه إلى أن اكتمل في أحسن صورة.
ومنذ ذلك التاريخ، كان غالبية عمداء هذا المسجد من المغاربة. فقط عندما دبّرت الدولة الفرنسية العميقة حملة مناهضة للمغرب، متهمة المملكة بالتدخل الديني الزائف، تم احتواء الأمر ودُعم شمس الدين حفيظ المُصمم خصيصًا للنظام الجزائري وفرنسا.
في عهد هذا الرجل (حفيظ) وصلت تجاوزات القائمين على هذا الصرح الديني؛ إلى المنابر المأجورة للعسكر، حيث يُقال إن الغضب يتصاعد فيما يتعلق بتحويل دور هذه المؤسسة الدينية لغايات سياسية فرنسية – فرنسية.
وتصرف الجزائر مليارات الدولارات على هذه المؤسسة الدينية دون تحقق أي إنجاز يذكر، فالبعض يرى أن لجوء الجزائر إلى الخطاب الديني التحريضي لمواجهة المغرب على الأراضي الفرنسية فيه اعتراف بعجز الدبلوماسية الجزائرية الفاشلة.
كما يلعب “منبر” المسجد الكبير أدواراً أخرى لصالح الدولة الفرنسية، فلا ننسى أن عميد مسجد باريس الكبير، شمس الدين حفيظ، دعا في وقت سابق إلى التصويت لصالح إيمانويل ماكرون مثيرا جدلا حول الفصل بين الدين والسياسة. بل وأعلن عميد مسجد باريس في فترة الانتخابات الفرنسية عن تنظيم مائدة إفطار لدعم إيمانويل ماكرون، الأمر الذي أثار حينها انتقادات في وسائل التواصل الاجتماعي وبين أوساط مفكرين ومثقفين من الجالية المسلمة في فرنسا.
نغلق هذا القوس ونعود إلى تلك المليارات التي ينفقها النظام العسكري الجزائري، والتي هي في الأصل أموال الشعب الجزائري المقهور، والذي يقف لساعات طوال في طوابير متعددة للحصول على حاجياته الضرورية، وبالتالي فالمواطن في هذا البلد هو الخاسر الأكبر.
لكن المثير في الأمر هو أن فرنسا والتي تدعي بأنها تخوض حربا ضد توظيف دور العبادة في أجندات تهدد استقرار البلاد وتضر بعلمانيتها، وقعت في تناقض كبير، ففي السابق كانت ترفض ما تسميه بالتدخل الأجنبي من بوابة الحقل الديني، والآن نرى مليارات الدولارات الجزائرية تُرسل إلى مؤسسة دينية بباريس، قصد استمالة مواقف معينة ولخدمة مصالح الدولة الفرنسية.