على امتداد تاريخه، اعتمد النظام الجزائري بعد الاستقلال سياسات محددة، أظهرت الأيام محدوديتها من جهة، وعقمها وانتهاء صلاحيتها من جهة أخرى. البداية كانت مع “سياسة التجريب” الكارثية في عهد الرئيس هواري بومدين، التي سرعان ما انتهت صلاحيتها بعد أن خربت السياسة والاقتصاد والزراعة، وساهمت في إحداث شروخ اجتماعية نتيجة ما سمي بالتعريب. ليأتي عهد جنرال آخر هو الشاذلي بن جديد، الذي سرعان ما اكتشف استحالة استكمال ما بدأه سلفه، فحاول اعتماد “سياسة الترقيع” التي تضفي بعض الجمال على وجه النظام العسكري القبيح. محاولة سرعان ما تدخل “جنرالات فرنسا” (نزار وتوفيق والعماري) لإيقافها، واستخدام سياسة ثالثة اتخذت عنوان “القوة الغاشمة والقمع الصريح” أو ما يطلق عليه الجزائريون “العشرية السوداء”.
ليدخل القرن الجديد، معلنا فشل السياسة الثالثة، واستبدالها بالبحث عن رابعة تبقي قبضة العسكر ممسكة على زمام السلطة في الجزائر، باعتماد سياسة “الحكم من وراء ستار” الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وليتبلور لأول مرة ثلاثة معسكرات متمايزة بعد نهاية العهدة الأولى لبوتفليقة: جناح المخابرات برئاسة الجنرال توفيق، وجناح الجيش برئاسة الفريق القايد صالح، وجناح الرئاسة بقيادة الرئيس بوتفليقة. ولأن جميع السياسات الأربعة قد أثبتت فشلها بالنسبة للشعب الجزائري، الذي جرب فيه العسكر نظرياته في الحكم كاملة، فقد بدأت سياسة خامسة عنوانها “شراء الوقت”، استطاع في نهايتها جناح الجيش أن يحطم جناح المخابرات الأقوى، وتصبح المعركة المؤجلة بين الجناحين المتبقيين مسألة وقت، وهو ما تأتى بعد خمس سنوات، بعد خروج الشعب الجزائري للشارع، معلنا رفضه الصريح لأن يستمر في لعب دور “مختبر التجارب” لسياسات وأدوات النظام الجزائري المهترئة، وليحتوي جناح العسكر المتهالك جناح الرئاسة المريض، مرض الساكن في قصر المرادية.
وجاءت أزمة “كورونا”، لتدخل الجزائريين بيوتهم دون أن تنجح في إدخالهم “سوق راسهم”، وبقي الجمر متقدا بشدة تحت رماد حقبة الرئيس تبون وحليفه الفريق شنقريحة، لنصل إلى السياسة الأخيرة، وما يدرك الجميع (بغض النظر عن خلفيتهم السياسية) أنه الفصل الأخيرة في عمر “دولة الاستقلال” في الجزائر، ونعني هنا “سياسة الهروب إلى الأمام”.
ولعل ما يجعلنا نعتبر أن ما يجري حاليا في الجزائر هو بمثابة الفصل الأخير من عمر دولة الاستقلال العسكرية، أنه يحمل سمات هذه السياسة المجربة عالميا لدى جميع الأنظمة الاستبدادية القمعية، بشكل لا تخطئه العين، وأهمها:
– محاولة كسب رضى الشعب بإجراءات شكلية عقيمة ومجربة سابقا (تغييرات حكومية، انتخابات، تعديل دستور، محاكمات ضد أكباش فداء، وغيرها من الخطوات التي شاهدناها حرفيا خلال العامين الماضيين)
– التخبط في القرارات والتضارب في الصلاحيات
– افتعال مشاكل داخلية وخارجية لحرف أنظار الشعب عن مشاكله الحقيقية
– قفز العديد من الرموز من قارب النظام وهرب رؤوس الأموال إلى خارج البلد
– التصعيد في وتيرة العنف الممارس تجاه الشعب داخليا، وتجاه دول الجوار خارجيا
ومما يزيد من تفاقم مشاكل النظام في أعين جماهيره، وجود نماذج حكم وإدارة مختلفة لدى دول جوار لديها أوضاع اجتماعية واقتصادية مشابهة، وهنا تنتصب المقارنات الأزلية بين سلوك وسياسات النظام المغربي الجار والشقيق، وسلوك الطغمة الحاكمة في الجزائر. مقارنات تعقد بشكل شبه يومي على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بعد أن امتلك الشعب أدواته في التعبير الحر عما يعانيه ويحسه. إن النجاحات المغربية (ولا تقال هنا على صعيد الفخر، لكن تعبيرا عما يقوله ويكتبه معظم الجزائريين أنفسهم) دبلوماسية كانت (الضربات الماحقة التي وجهتها لصنيعة جهاز المخابرات الجزائري “البوليساريو”) أو اقتصادية (نجاحات الصناعة والفلاحة والتصدير، والتحول إلى المستثمر الأول في أفريقيا رغم عدم امتلاكها لريع نفطي معتبر) بل والإدارية (أزمة كورونا وحملات التلقيح التي ضمنت للمغرب المركز الأول إفريقيا)، والاستخباراتية (الشريك الأمني الأول لأوروبا والولايات المتحدة) دون الحديث عن الاستراتيجية (الطاقات المتجددة، القطار فائق السرعة، الخ) ناهيك عن تعاظم تأثيرها الكروي، والفني وحيوية سكانها وغيرها من المجالات، وهو ما فتئ يزداد بشكل يومي.
وفي ظل هذه النجاحات التي لا تحتاج لترويج، ووضوح الرؤية التي يمتلكها الشعب الجزائري الذي نزل بجميع فئاته للشارع بحثا عن امتلاك زمام مصيره لأول مرة منذ الاستقلال، يبقى الوصول إلى النتيجة المحتومة لسياسة الهروب إلى الأمام، والتي لا تعدو كونها الانهيار و”الوصول إلى الهاوية” هي مسألة وقت ليس إلا، وهو ما يتمنى كل إنسان أن تتوقف آثاره المزلزلة عند عتبة النظام، ولا تصل إلى مصالح ومقدرات الشعب الصابر المكافح.
وكخلاصة نقول: إن الشعب الجزائري الأبي قد شب عن طوق الاحتواء والاستعباد، هذه الحقيقة يدركها كل ذي بصر وبصيرة، وهو يعرف أعداءه الحقيقيين داخليا وخارجيا، ولم تعد تنطلي عليه معارك النظام العسكري الوهمية. وعليه، لم يتبق أمام من لا يزال يحتفظ ببعض خيوط اللعبة السياسية المهترئة من معسكري الجيش والرئاسة اللذان أصبحا معسكرا واحدا، إلا التسليم بالواقع، بدل الوقوف في وجه طوفان بشري سيجرف كل شيء، إن لم يكن هذه الجمعة، ففي جمعة موالية ليست بعيدة، “وإن غدا لناظره قريب”؟؟!