لا يعرف أغلب الأسبان لغايةيومه، أين يقيم ملكهم السابق،خوان كارلوس، الذي تنازل في يونيو 2014 عن العرش، لولي عهده،نجله الملك الحالي”دون فيليبي” وهو يومئذ في الثامنة والأربعين من عمره،بينما ارتقى والده عرش أسلافه”أل بوربون” وكان في السابعة والثلاثين من العمر.
حدث ذلك يوم 22 نوفمبرعام 1975، إثر وفاة الديكتاتور”فرانكو” الذي أشرف على تهيئة الوريث،ليحكم إسبانيا بعد رحيله، وفاء من الديكتاتور للملكية والكنيسة ومحاربة الشيوعيىة؛ وهي الذرائع التي دفعته إلى التمرد العسكري على الشرعية الديمقراطية عام 1936.
واختار الجنرال فرانكو،لقب رئيس الدولة،احتراما منه للملكية التي استعادها بالنار والدماء، من الجمهوريين بعد حرب أهلية ضروس دامت ثلاث سنوات،وانتصرت فيها قوات فرانكو، مدوعوما من النازية والفاشية ومن فيالق من المقاتلين المغاربة،دفعهم البؤس والفقر والدعاية الاستعمارية الخادعة إلى القتال من اجل نظام انقلابي فاشستي.
وطالما لمحت دوائر سياسية وإعلامية إسبانية في المدة الأخيرة إلى أن الملك الذي غادرالبلاد منذ أكثر من أربعة أشهر،قاصدا وجهة مجهولة، دون الإعلان عن موعد السفر ولا من رافقه في رحلة المنفى الاضطراري.
ولا شك أنه أي خوان كارلوس،قد استيقظ صبيحة 22 من الشهر الجاري، ليجد نفسه في” أبوظبي” بين الحلم واليقظة، مستعرضا شريط ذكريات الاحتفالات المجيدة بتتويجه في نفس اليوم من عام 1975في أجواء احتفالية غير مسبوقة في تاريخ إسبانيا الحديث وإشادة جماعية من العالم المتحضر.
ومن المفارقات الطريفة،أن تحل الذكرى،والملك بعيد عن وطنه وأسرته،لا يسال أحد عنه أو يطالب بعودته،صونا لكرامته.
وقد اسر الملك بهذه الحقيقة المرة إلى أصدقاء يقال إنهم ما زالوا على صلة به في منفاه البعيد؛بل يروج إن اليأس والحزن تمكنا منه لدرجة أنه، بعد أن فقدكل امتيازاته المادية والمعنوية، أو تنازل عنها طوعا، بما فيها البروتوكولية؛ بات يفكر في العودة إلى وطنه،واضعا مصيره بين يدي العدالة للتحقيق معه في تهم الفساد المالي والتملص الضريبي المنسوبة إليه.
وتلك خطوة لا يمكن أن يقدم عليها من دون موافقة نجله الذي تخلى له عن العرش،و نزولا أيضا عند رغبة ونصيحة سياسيين كبار عملوا معه وثمنوا دوره في إرساء الديمقراطية الإسبانية وحمايتها من أنصار نظام فرانكو الماسكين آنذاك بمفاصل الدولة والجيش والأمن والاقتصاد؛ ولكنهم انصاعوا لتوجه الملك الجديد وألقوا السلاح.
ومن المؤكد أن الكثير من الإسبان،متعاطفون بشكل من الأشكال،مع العاهل السابق، تقديرا لدوره في الماضي؛ لكن لا احد منهم يجرؤ على الجهر بذلك لأن الصحافة والرأي العام سيتصدون لهم.
والتعاطف مع الملك السابق محصو بالتأكيد في فئات الجيل الذي عاصر سنوات حكمه الأولى، مقدرين فيه التضحية الطواعية بالتخلي عن السلطاتوالصلاحيات الواسعة التي ورثها له فرانكو، حتى يواصل نفس نهج الديكتاتور،حاميا البلاد،بالاستبداد من خطر الشيوعية المتوهمة
تطورت وتغيرت إسبانيا كثيرا وعميقا؛ ولعل أول من أدرك تلك الحقيقة هو ،خوان كارلوس، نفسه فاستسلم لنصيحة الأصدقاء وحرصا منه على تمهيد الطريق لنجله قبل أن ترتد ضده أمواج المعارضة الشعبية.
فهل يقررالملك خوان كارلوس، في يوم قريب، وضع نفسه رهن شارة ابنه الملك الحالي، وعدالة بلاده، لتقرر بشأنه ما يطبق على أي مواطن مهما علا شأنه في بلد القانون؟
كثيرون لا يستبعدون هذا الاحتمال. فقد تقدم العمر بالملك،وهو أصلا يشكو من عدة علل صحية، قادته في السنوات الماضية إلى غرف العمليات حوالي 20 مرة، غادرها محمولا وأحيانا في عربات طبية أو ماشيا بتؤدة مستندا على عكازين.
وبدل أن يتعظ الملك الحزين، فإنه سرعان ما كان يعود إلى تكرار خطأ أفدح من سابقه.
حاول محللون إسبان، الإطلالة على المناطق المعتمة في نفسية وشخصية، خوان كارلوس، لتفسير الدوافع العميقة التي دفعته إلى ارتكاب المحظور وخاصة الولع بالمال والتستر على الوسيلة التي راكمه بها فضلا عن مطاردة النساء.
ولا بد من التأكيد هنا انه ما ثبت أن العاهل الإسباني السابق،مد يده إلى المال العام، وإنما هي الإغراءات أتته من الخارج في صورة هدايا او مكافأت،مقابل خدمات كبيرة لدى شركات بلاده أو بلدان أخرى له علاقة بقادتها.
بعبارة أخرى ضعف الملك أمام رشاوي بيضاء. والأخطر منها أن العدوى انتقلت إلى أسرته وتحديدا أحد أصهاره، زوج ابنته كريستينا الذي يقضي عقوبة السجن جراء تلاعباته المالية. ولم تفلت زوجته الأميرة من الإدانة إلا بفضل براعة قانونية في الدفاع عنها وتبرئتها.
ذات صباح،يبدو قريبا، أو تحت جنح الظلام، ستبث وسائل الإعلام أن خوان كارلوس، حط في مطار عسكري سري ،بضواحي العاصمة مدريد، دون بروتوكول استقبال خاص إلا من أعضاء أسرته، لينهي سنوات عمره في بلاده وقد مل من منفى الطفولة في البرتغال والكهولة متنقلا بين بلدان.
خوان كارلوس الذي يوصف بأنه منح لنفسه في الماضي حق التدخل بذكاء وعن بعد،في تدبير شؤون الملكية البرلمانية؛ هو إنسان غير محظوظ ، لاحقته الأحزان منذ شبابه.
وحيث إنه اعترف بأخطائه السابقة، فليس من المستبعد أن يصارح الرأي العام بما اقترفت يداه، طالبا الصفح من مواطنيه. لعل الأخلاق المسيحية تتحرك في النفوس، ليمضي ما تبقى من سنوات خريف العمر في وطنه.
انتهى عهد النزوات والنزق والمغامرات العاطفية. لقد وهن العظم وتقوس الظهر؛ فماذا بقي، لدون خوان كارلوس دي بورون إي بوروبون، غير الامتثال لحكم التاريخ ولحظه العاثر. وربما كان رئيس الوزراء اسبق لويس ثباطيرو حكيما حينما صرح ان قضية الملك تستحق نقاشا سياسيا على مستوى معين.
طوى التاريخ صفحات فرانكو، لأنه مستبد كريه ،لم يعد يذكره أحد ؛ أما خلفه في قصر الملكي”لا ثرثويلا” فلن يبخسه التاريخ حقه كله،وقد يستفيد من عطف مواطنيه، طبقا للمقولة: إن الوطن غفور رحيم.