من النادر أن يتوج سياسي، كيفما كان البلد الذي ينتمي إليه، وهو في بداية العقد الرابع من عمره بجائزة رفيعة مثل نوبل للسلام؛ فقد جرت العادة، إلا في حالات قليلة، أن يتم تتويج الأكاديمية السويدية لكبار الساسة في نهاية مسارهم الحافل بالإنجازات الوطنية والإنسانية.
وبهذا الاعتبار، يعد فوز رئيس الوزراء الإثيوبي،أبيي أحمد، بالجائزة مفخرة له ولشعبه وللقارة الإفريقية التي أنجبت هذا الداعية الشاب للسلام (43 عاما) ولما يمر على وصوله إلى رئاسة السلطة التنفيذية في بلاده أقل من عامين.
والحقيقة أن اسم الفائز، كان متداولا على نطاق ضيق بين المحتملين، خاصة بعد أن برز أحمد، خارج بلاده حينما عرض وساطته في النزاع السوداني بين الجيش والمدنيين، عقب الإطاحة بالجنرال عمر البشير؛ فقد ساهم في التوفيق بين المدنيين والعسكريين على محددات المرحلة الانتقالية، بمعية أطراف أخرى حيث كللت الجهود المشتركة بالنجاح.
وقبل ذلك جرب، أبيي أحمد، أسلوبه التفاوضي الناجع في إبرام الصلح بين السلطة وخصومها في البلد الذي جعل منه الانفصال جمهورية جنوب السودان.
ربما لم يحن الوقت بعد، أمام توالي نجاحات رئيس وزراء إثيوبيا؛ لمعرفة منهجيته ووصفاته السحرية في التفاوض وكذا وسائل الإقناع المفضلة لديه، علما أن إنجازه الكبير حققه في بلده قبل الخارج جرت حرب ضروس بين إثيوبيا والجزء المنفصل عنها “إريتريا” واستمرت عقود ا من الزمن، تميزت بالمجاعات والجفاف والفقر المدقع والتراجيديا الإنسانية.
جاء الساحر”أبيي” إلى السلطة عام 2018 بدعم تحالف حزبي، واستطاع وضع حد لعهود من العداء والأحقاد بين اريتريا وأثيوبيا؛ وكانا في وقت من الأوقات بلدا واحدا.
قبل أن يتوجه “أبيي” إلى الخارج لفض النزاعات، أحدث في بلده انفراجا غير مسبوق حيث اشرع بشجاعة نادرة أبواب السجون ومراكز الاعتقال السري والعلني، وأخرج منها المئات والعشرات. وبموازاة ذلك ألغى حالة الطوارئ الممددة التي عاشت في ظلها البلاد سنوات،استعملتها السلطات البائدة مبررا لاعتقالات عشوائية بدون محاكمات عادلة.
الفائز بنوبل السلام، لهذا العام، هو أيضا صاحب مسار مثير: مهندس معلوميات، التحق بالجيش حيث عمل سرا وبنشاط من أجل تخليص وطنه من أثار وتبعات ومخلفات الحاكم العسكري المستبد “هايلي مريام” ودع بعدها الجيش ليستأنف نشاطه السياسي في صفوف الحزب الذي أوصله بكيفية ديموقراطية، ضمن تحالف، إلى رأس السلطة التنفيذية، معززا بصلاحيات واسعة استغلها في تحرير الاقتصاد وتحفيز الطاقات الشعبية تحسن نتيجتها الاقتصاد وارتفع معدل النمو وعمت البلاد أجواء انفراج سياسي وساد تآخ بين القوميات المكونة للنسيج السكاني الإثيوبي؛ بل استطاع رئيس الوزراء إشراكها في الحكم، وبوأ أول سيدة افريقية منصب رئاسة جمهورية بلاده.
أكيد أن فوزه بالجائزة، وقد قوبل بارتياح،سيثير اهتمام العواصم والمحللين للتنقيب عن أسرار حياة المتوج،وكيف وصل إلى ما وصل إليه في ظرف وجيز؛ ما يعني أن المستقبل مشرق له وأمامه ؛ غير أن أبيي أحمد،يعرف أكثر من غيره، أنه مهدد ومستهدف في مساعيه السلمية الداخلية والخارجية، من أعدا ء الوئام والتعايش السلمي ؛فقد تعرض لمحاولة اغتيال خطيرة، بعد 3 أشهر من وصوله إلى السلطة، نجا منها بأعجوبة.
تجدر الإشارة إلى أن الجينات الخلقية متساكنة في دم الزعيم الإثيوبي: والده مسلم ووالدته مسيحية بروتستانتية، من أرومتين مختلفتين.
سيواجه رئيس الوزراء الأثيوبي، تحديات كبيرة وقد صار مرجعا للسلم. أولها الخلاف الحالي الذي يباعد بين بلاده ومصر على خلفية تشييد سد النهضة بإثيوبيا.
هل سيوظف داعية السلم، خبرته وتأثيره المعنوي على القوى المعترضة في بلاده التي ترفض الإصغاء للحجج المصرية معربة عن مخاوفها من انخفاض منسوب حصتها من مياه نهر النيل.
فشلت الجولة الأخيرة من المفاوضات الثلاثية في الخرطوم وعبرت القاهرة صراحة عن انزعاجها الشديد، ملوحة باللجوء إلى كل الاحتمالات.
لن يقبل “أبيي” أحمد بعد تتويجه، أن ينعت بالفاشل في تسوية خلاف مستعص بين بلده ومصر، وبينهما ما بينهما من علاقات تاريخية وأواصر دينية تدعمها وتحميها الكنيسة الشرقية.