الرئيسية / ثقافة ومعرفة / لعريني: “يجب إعادة الاعتبار إلى السوسيولوجيا في المغرب”
السوسيولوجيا
الباحث في علم الاجتماع صلاح الدين لعريني

لعريني: “يجب إعادة الاعتبار إلى السوسيولوجيا في المغرب”

في هذا الحوار مع “مشاهد24″، يطلعنا الباحث في علم الاجتماع، صلاح الدين لعريني، عن تجربتهم كباحثين شباب في مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية بكل الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، ويناقش وضعية البحث العلمي وموقع السوسيولوجيا في المغرب في الوقت الحالي، ويحدثنا عن تطلعات الجيل الجديد من السوسيولوجيين.

 

 بداية، عرفنا بما يقوم به مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية بكلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز للمساهمة في الحركية السوسيولوجية على مستوى الجامعة المغربية؟
يمكنني القول أن مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز بفاس، يعد مختبرا نشيطا في هذا المجال، بفضل الدينامية التي خلقها، وأيضا بفضل استراتيجيه التكوينية والتأطيرية في المجال السوسيولوجي للطبلة والباحثين المشاركين والمنخرطين فيه. كما يرجع الفضل في ذلك أيضا إلى الأطر السوسيولوجية المشكلة له، إذ يضم خيرة من النخب السوسيولوجية الواعدة في البحث السوسيولوجي، كالأستاذ الباحث عبد الرحمان المالكي ود. عبد السلام فراعي وذ قيس مرزوق الورياشي ود.محمد عبابو ود. أحمد بوزيان ود.خوخو وغيرهم من الوجوه السوسيولوجية.

لقد تجسدت دينامية هذا المختبر وإنجازاته في تنظيمه للعديد من المؤتمرات دولية حول مواضيع وإشكالات وقضايا راهنة منذ 2008، بلغ عددها خمس مؤتمرات، تم خلالها مناقشة العديد من المواضيع مثل السياسيات الاجتماعية وعلاقتها بقضايا الصحة والمرض والهشاشة في المجتمع المغربي، تمت كذلك مناقشة قضية التغذية بالمجتمع المغربي من منظور سوسيولوجي، وأيضا التعددية العلاجية. والشيخوخة، التي تضع الدولة اليوم والمجتمع أمام معضلات اجتماعية وأخلاقية، خصوصا وأن الدولة غير مؤهلة اليوم بما يكفي لفهم وتدبير المسألة الاجتماعية التي تتجه إلى التعقيد أكثر بالمجتمع المغربي بفعل التحولات التي طرأت على بنياته الرمزية والمادية على أكثر من المستوى كالمستوى القيمي والثقافي والاجتماعي والصحي والاقتصادي والسياسي.

Fes fac

هذه المؤتمرات كانت فرصة لتبادل الخبرات بين جامعات متعددة على المستوى الدولي، من بلدان العديدة أروبية وإفريقية وعربية. وأيضا من شعب مختلفة مثل الطب والاقتصاد والأنثروبولوجيا والتاريخ و السوسيولوجيا وغيرها.

ومن بين منجزات المختبر أيضا بالإضافة إلى التكوينات التي يديرها بشكل دوري حسب البرنامج المسطر للتكوين كل موسم جامعي، فإنه أصدر ثلاث أعداد من مجلته المحكمة المعنونة ب”آفاق سوسيولوجية”، صدر منها عددين، والثالت قيد الإصدار. ولعل ما يميز هذه المجلة وهي تستشرف أفقها السوسيولوجي، التي تطمح من خلاله إلى فتح آفاق جديدة للبحث والتفكير وتعضيض التراكم السوسيولوجي بالمغرب، هو أنها مجلة تشمل محتوياتها على مادة معرفية خصبة حول إشكالات راهنة تمت مقاربتها على ضوء المقاربة المتعددة الأبعاد(l’approche multidisciplinaire) وذلك عبر الانفتاح على منظورات مختلفة ومتداخلة بين العلوم الطبيعية والثقافية، ومقاربات عديدة تحيط بالموضوع من زواياه المختلفة. ومن بين مميزات هذه المجلة أيضا، أنها مجلة منفتحة على الشباب الباحثين طلبة ودكاترة من أجل تشجيعهم على الكتابة وعلى تطوير كفاءاتهم السوسيولوجية، وتأهيلهم للمستقبل ليكونوا اطباء المجتمع قادرين على مجاراة تحولاته وتفسير العالم الاجتماعي المحيط بهم.

مؤخرا قمتم بالاحتفاء بثلاثة أساتذة باحثين في مجال السوسيولوجيا، هم عبد الرحمان المالكي وشكري سلام ومحمد عبابو، من خلال تسليط الضوء على أبحاثهم في مجالات الهجرة والتحضر والصحة. مثل هذه الأنشطة والبحوث واللقاءات السوسيولوجية داخل الجامعة المغربية، والتي يساهم فيها الأساتذة والطلبة الباحثون، هل يكون لها تأثير على صانعي القرار أم أنها تظل حبيسة أسوار الجامعة؟
في نظري الشخصي، للإجابة على هذا السؤال ينبغي النظر إلى موقع المعرفة أولا بصفة عامة في المجتمع المغربي وعلاقة هذه المعرفة بالسلطة التي تتحكم في سيرورة إنتاجها وتدبير انتشارها على المستوى المؤسساتي والاجتماعي والإعلامي. كما ينغي النظر إلى موقع الجامعة ب”مجتمع المعرفة” الذي لا زلنا بعيدين عنه كل البعد. بطبيعة الحال فالأثر الذي تسألون عنه يبقى محدود في حدود أسوار المؤسسات وجماعة المتخصصين. ما ينطبق على المنتج السوسيولوجي هنا ينطبق على منتوج باقي الشعب والعلوم. لكن من جهة أخرى، هذه الأنشطة لها أثر في صفوف المتخصصين. فهي تشكل فرصة للطلبة لتحيين مفاهيمهم والانفتاح على مقاربات جديدة وتطوير رؤى اشتغالهم وصقل كفاءاتهم.

فضلا على الأثر المباشر هناك أثر آخر غير مباشر لمثل هذه الأنشطة والأحداث على المجتمع. بحيث أن المتدخلين والمشاركين والحاضرين يغنون خبراتهم ويطورون معارفهم ومفاهيمهم. مما ينعكس إيجابا على طريقة بناءهم لموضوعات اشتغالهم، ومن ثمة على المجتمع بأسره. هذا طبعا في حالة ما إذا كان البحث العلمي قاعدة ومنطلق السياسيات العمومية التدخلية.
لكن عموما، يبقى الأثر غير المباشر ضعيفا، بسبب العلاقة المتوترة الموجود بين السلطة والمعرفة والمجتمع. وهنا يجب أن يلعب الإعلام دوره إلى جانب الجامعة للتعريف بالمنتوجات العلمية التي تنجز في المختبرات بحيث تكون فرصة لتعميمها والتعريف بها وفتح نقاشات هادئة ووازنة حولها.

Ababou Malki

في هذا السياق جاءت مبادرة الاحتفاء بالأساتذة الذين ذكرت. على شكل ندوة دراسية تعرض للمنجز السوسيولوجي للمختبر وتعريف به. وكان عنوانها “ديناميات التغير بمجتمع المغربي من خلال قضايا الهجرة والصحة”. هي مبادرة قام بها الطلبة في سلك الدكتورة المسجلين في مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية، للتعريف بمنتوج سوسيولوجي استغرق فيه أصحابه سنوات من الجهد، ويتميز بالعمق والأصالة والحرفية في تناوله لقضايا سوسيولوجية راهنة مثل الهجرة وانعكاساتها على المشهد الحضري، وقضية الأمراض المزمنة ومخاطرها على الصحة العمومية، وإشكالية التغير والتنمية بالمجتمع القروي وعلاقتها بالسياسة التنمية القروية.

رصد هذه الإشكاليات الثلاث وجدنا فيه أهمية كبيرة، لذلك فكرنا صحبة زملائي الطلبة الباحثين بسلك الدكتوراه أعضاء هذا المختبر صلاح الدين بومارى ومحمد اد موسى وبوجمعة الفاتحي، في عقد ندوة فكرية بشراكة مع المعهد الجامعي للبحث العلمي، الذي نشكره بهذه المناسبة على الدور الكبير الذي لعبه لإنجاح هذا النشاط كما نشكر الأساتذة المحتفى بهم والمتدخلين والحضور الكرام وكل من ساهم معنا في هذا الحدث السوسيولوجي، وذلك بهدف التعريف أولا بهاته الأعمال وهؤلاء الأساتذة، وثانيا لخلق دينامية جديدة يكون فيها الطالب الباحث هو الفاعل المباشر. لأن هؤلاء الطلبة هم دكاترة الغد وإذ لم يأخذوا اليوم المبادرة بأنفسهم وإذا لم يعتمدوا على خبراتهم الذاتية وإمكانياتهم الشخصية، لن يطوروا ذاتهم المعرفية والاجتماعية بما يكفي. وهنا لا ينبغي انتظار التكوينات الجامعية الكلاسيكية أو التعويل عليها. الجامعة اليوم لا تقوم بدورها كما يجب على مستوى التأطير والتكوين والنشر.

في هذا السياق جاء هذا الحدث، لكن الحكم على مدى تأثير يبقى رهينا بربطه بمجموعة من الاشكاليات كإشكالية تمويل وتأهيل البحث العلمي، وإشكالية النشر والكتابة وتحول أشكالهما، وإشكالية الأمية والعزوف عن القراءة في ظل مجتمع المعرفة، وأخيرا إشكالية المعرفة والسلطة والمجتمع.

إذا ما أردنا أن نتحدث عن ثلاثة مكونات، الجامعة والإعلام والدولة. من ينبغي أن ينفتح على الآخر. هل يجب على الإعلام أن يقدم على الخطوة الأولى، أم أن الجامعة ينبغي أن تكيف خطابها مع لغة الإعلام؟ هل يجب على الدولة أن تنفتح على الجامعة للاستفادة مما تنتجه، أم أن الجامعة عليها أن تقنع الدولة بضرورة الانتباه إلى ما يتم إنجازه لأن من شأنه أن ينير الطريق للحكومة في مجال صياغة السياسات العمومية؟
في نظري الشخصي، هذا إشكال مركب وعويص، سأحاول الإجابة عنه في حدود معرفتي المتواضعة. بداية، هناك حساسية تسم علاقة رجل السوسيولوجيا برجل الإعلام. فغالبا ما يتم النظر إلى الإعلام نظرة توجسية من طرف السوسيولوجيين، انطلاقا من تحديد دور السوسيولوجي ودور رجل الإعلام. فلكل منهما دوره الذي تحدده مجموع من الضوابط والنواظم. الإعلام غالبا ما يفرض منطقه ولغته وإستراتيجياته ورهاناته على السوسيولوجي إذا ما أراد أن يتخذ من الإعلام واجهة لمخاطبة الرأي العام. بالتالي، يفرض الإعلام هنا سلطته على السوسيولوجي فيفقده هويته ونظرته الخاصة.

بناء على ذلك، أضيف معطى آخر، وهو أن مهمة الباحث في علم الاجتماع مهمة نقدية بالدرجة الأولى: الفهم ثم التغيير. هذه المهمة النقدية، إذا ما رجعنا إلى تاريخ علم الاجتماع، جعلت السوسيولوجيا تأخذ مسارين. فمن جهة أنتجت لنا سوسيولوجيا مروضة ومهادنة، سوسيولوجيا الخبرة والخدمة والطلب الاجتماعي، وأنتجت معها جيلا من الخبراء هو اليوم الأكثر حضورا في الفضاء الإعلامي وأكثر فعلا فيما ينجز بالمغرب من دراسات وتقارير من طرف منظمات وطنية ودولية.

من جانب آخر هناك سوسيولوجيا أصيلة ونقدية، من يمثلونها قليلون وهم متوارون، ربما لا تغويهم الآلة الإعلامية، ليس رفضا للوساطة الاعلامية وإنما تقيدا بتقاليد الدور وأخلاقيات الحرفة، أي دورهم كسوسيولوجيين منتجين لخطاب نقدي قد يتعارض مع ايديولوجية المؤسسة الإعلامية وتقاليدها المهنية هي الأخرى. وبالتالي فإن فبروزهم على الوجهة الاعلامية يقتضي من هذه الأخيرة أن تؤخذ بعين الاعتبار نقدية الخطاب السوسيولوجي. ولدينا أمثلة لمفكرين وباحثين في علم الاجتماع لا يظهرون في الواجهة الإعلامية.

Haraj2

هذا ما يجعل من العلاقة بين الجامعة والبحث العلمي عامة من جهة، والإعلام والمسئولين الحكوميين من جهة ثانية، علاقة مركبة ومتوترة. الجامعة اليوم، وعلى ما يبدو تفتقر لاستراتيجيات تواصلية وتكوينية واضحة الآفاق والمعالم. بل الأكثر من ذلك تفتقر إلى استراتيجية بحث ومشاريع بحثية على المدى البعيد أو المتوسط.

البحوث التي تنجز اليوم في الجامعة لا يتم الاستفادة منها وتظل حبيسة الرفوف. وهذه في نظري معضلة كبيرة. الأدهى من ذلك أنه يتم رميها مع الأزبال، بغض النظر عن جودتها وكيفية إنجازها وظروف تأطيرها ومناقشتها. وحتى الأعمال الجيدة لا تحظى بالنشر والتشجيع والدعم. بالتالي أصبحت الجامعة المغربية مؤسسة لتدبير الموسم الجامعي أي تدبير تسجيل وحضور الطلبة ومنح الشواهد ، أكثر مما هي مؤسسة لتنظيم وعقلنة سيرورة التكوين والبحث العلميين. وما عليكم هنا إلى ان تعودوا معي إلى تمثل وصورة الجامعة في صفوف الشباب خاصة كليات الآداب والحقوق والاقتصاد والتربية.

لقد أضحى خيار التسجيل بالجامعة خيار من لا خيار له، فهو يصنف في الغالب في آخر الممكنات التي يقدم عليها الطالب بعد حصوله على شهادة الباكالوريا، فصورة الجامعة تترسم عند عدد كبير من المسجلين بها بكونها فضاء للحرية أكثر منه فضاء للمعرفة. وأصبحت الجامعة حتى عند الآباء والأمهات أحيانا مرادفا للانحراف و”البريكولاج” وللمستقبل الغامض وشبح البطالة. وهذا للأسف لا يناوله الاعلام المغربي بما يكفي. وإذا ما عرض لنا الإعلام شيء عن الجامعة فغالبا ما يكون هذا الشيء متعلق بأحداث العنف والإضرابات التي تعرفها الجامعة، ولا يعرض لمثل هذه الاشكالات ويستضيف متخصصين فيها لإخضاعها لمجهر المساءلة والتحليل ومعول التفكيك والنقد البناء.

إذن، الإعلام مغيب عن الجامعة والجامعة غير منفتحة أصلا على الإعلام لأن ذلك بمنتهى البساطة لا يوجد في أجندتها واستراتيجياتها التواصلية. والحكومة غير قادرة على دمج أو على الأقل فتحهما على بعضهما البعض. هذا ما يجعل أن الجامعة في آخر المطاف منغلقة على ذاتها، ويجعل أثر المعارف التي تنتجها محدودا وحبيس المجال التخصصي. فلا الباحثون في علم النفس يعرفون ما ينتجه الباحثون في علم الاجتماع، ولا هؤلاء لهم دراية بما ينتجه المتخصصون في البيولوجيا أو الاقتصاد، كل يعيش في برجه العاجي في عزلة قاتلة. وهذا ما تجسده الانتاجات التي تروج. أصبحنا للأسف أمام ظاهرة جديدة أسميها شخصيا “ظاهرة تضخم الكتابة”.

الكتابة أصبحت هي الهاجس بغض النظر عن ما يكتب ووفق أي ضوابط وهل نراعي الجودة في ما ننتجه؟ لأن النشر أصبح متاحا، لم يعد سؤال الجودة مطروحا في غياب ضوابط للرقابة وضبط المنتوج العلمي. لقد أصبحت الكاتبة كل شيئ وربما الهدف لا شيء أو الكتابة نفسها، الكتابة من أجل الكاتبة ولا ينبغي ان تفهمني هنا على انني أقصد الكتابة كغاية بل اعني الكتابة كوسيلة. صحيح أنه لدينا كعقل عربي ضعف في الانتاج المكتوب، لكن لا ينبغي أن يصبح هاجس كتابة أي شيئ وسيلة لتغطية هذا الضعف. كتابة قليلة ومفيدة خير من كتابة كثيرة ومضللة.

Bib

أحمل المسؤولية بالدرجة للباحثين انفسهم وللمؤسسات البحثية، وأيضا للحكومة لأنها تفتقر لإستراتيجية واضحة للبحث العلمي. والدليل أن ما يحظى به البحث العلمي من دعم وتشجيع بالمغرب محدود جدا مقارنة بدول أخرى. وبخصوص مسؤولية الجامعة والباحثين فيها، إذا رجعنا إلى الدراسة التي أنجزها محمد الشرقاوي سنة 2009، عن المنتوج العلمي بالجامعة المغربية، نرى كيف أن 55% من الأساتذة الجامعيين لم ينتجوا ولو مقالا واحد منذ حصولهم على الدكتوراه. يعني أن هؤلاء الأساتذة الجامعيين الذين يقومون بتكوين النخب، غير منخرطين في سيرورة البحث العلمي، بالتالي أصبحنا أمام ظاهرة أخرى جديدة هي ظاهرة “المعلمين الجامعيين”.

نتائج الدراسة التي قام بها الشرقاوي كانت صادمة. هذا الأخير رفع على إثرها تقريرا آنذاك إلى وزير التعليم العالي لكن لم يحدث أي تغيير على مستوى استراتيجية البحث العلمي.
كباحثين أكيد أن لكم غيرة على هذا الحقل المعرفي الذي يهدف إلى دراسة المجتمع ومواكبة تحولاته. كيف تنظرون إلى دور السوسيولوجيا في مغرب اليوم؟

بداية لا بد أن أقول أنه يمكن أن نتحدث اليوم عن جيل رابع قادم في السوسيولوجيا بالمغرب. ينتظر السوسيولوجيين الشباب الواعيدين مضاعفة لجهودهم لخلافة الأجيال التي سبقتهم والتي اعطت الشيء الكثير وساهمت في تنوير المجتمع بذاته وتطويره إلى حد ما. وبالتالي للجواب على سؤالكم لا يمكن أن نناقش دور السوسيولوجيا بالمغرب وما يعلق علها من رهانات وتواجه من تحديات، دون الإشارة إلى دور السوسيولوجيا والعلوم الاجتماعية بصفة عامة. لأن سياق ميلاد العلوم الاجتماعية، التي ظهرت في القرن 19، جاءت نتيجة لحاجة اجتماعية فرضت مواكبة التحولات التي عرفها المجتمع الأوروبي بعد الثورة الصناعية. الثورة الصناعية خلخلت المجتمعات وخلقت نوعا من اللامعيارية الاجتماعية (l’anomie sociale) كما يسميها الأب الروحي للسوسيولوجيا إميل دوركهايم، على مستوى القيم ونمط العيش والروابط الاجتماعية وما إلى غير ذلك، مما أدى إلى حدوث تحولات بنيوية مست المجتمع في كافة مجالاته.

من هذا المنطلق وعت المجتمعات الحديثة بأهمية السوسيولوجيا لفهم المجتمع والتحكم فيه. منذ ولادتها، كانت السوسيولوجيا من جهة علما تحكميا، يسعى إلى فهم المجتمع من أجل ضبطه والحفاظ على استقراره، ثم كان هناك توجه من جهة ثانية، مضاد وهو السوسيولوجيا النقدية، التي تسعى إلى فهم المجتمع من أجل تغييره وتنميته وتحديثه.

هذا المعطى المرتبط بماهية السوسيولوجيا، دفع بتسييس العلوم الاجتماعية وتسخيرها سياسيا لخدمة أهداف براغماتية ومصالح تتعرض مع الغاية من العلم الاجتماعي وأخلاقياته. ووظفت السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا مثلا بالمجتمع المغربي كأداة لبسط الهيمنة الاستعمارية وتيسيرها وإضفاء شرعية عليها. كما نعلم، فهذه العلوم ظهرت في المغرب بغية فهم المجتمع لتسهيل عملية بسط الحماية الإمبريالية عليه. وبالتالي فإن مخاض السوسيولوجيا الكولونيالية في المغرب كان مخاضا غير بريء، تحركه هواجس إيديولوجية ورهانات استعمارية أكثر مما تحركه أهداف علمية وأخلاقية وتنموية.

Pascon

عندما جاء الجيل الثاني، كان الهدف هو نقد هذه السوسيولوجيا الكولونيالية، أي المعارف التي أنتجها المستعمر حول المجتمع المغربي. هذا المخاض النقدي الذي جاء مع بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي وغيرهم، لم يكتمل. لذلك عندما أتى الجيل الثالث، سعى إلى إنجاز مشاريع سوسيولوجية لم تذهب في مجملها في نفس المسار النقدي الذي دشنه الجيل الأول من السوسيولوجين المغاربة خلال سنوات الستينات والسبيعينات والثمانينيات. لأن تكلفة هذا الخيار رغم صلاحيته وأصالته كانت باهظة وأدت إلى تأخير السوسيولوجا بالمغرب اكثر مما ساهمت في تطويرها. نظرا للحصار الذي وجهة به السوسيولوجيا بالمغرب آنا ذاك والإقٌصاء المؤسساتي الرسمي الذي طالها وطال الباحثين فيها. رغم أنها كانت حينها تعكس طموحات انتظارات المغاربة المتمثلة بالخصوص في التغيير والتنمية والحداثة. لكن نشاط اليساريين في السبعينات، جعل الدولة تسخط على السوسيولجيا وتلغي معهدها وتوقف تدريس مادة الفلسفة.

ترتب عن هذا القمع السياسي للمعرفة المزعجة، خفوت السوسيولوجيا وانكماشها. عندما جاء الجيل الثالث، أراد القيام بعملية إعادة إحياء لكنه وجد نفسه وقد انجر إلى سوسيولوجيا الخبرة، حيث أصبح جل الباحثين في هذا العلم تقريرانين أكثر منهم سوسيولوجين، منجرين أكثر إلى انجاز تقارير وتقديم استشارات لمنظمات دولية تريد أن تدرس ظواهر وإشكالات معينة في المغرب. وبالتالي، فإن هذا الجيل، لم يساهم بدوره، بما يكفي في إبراز الطابع النقدي للسوسيولوجيا. غير أن هذا لا يمنع أبدا من وجود ثلة من هذا الجيل الذي ظل مرتبطا بالتوجه النقدي للجيل الأول من السوسيولوجيين المغاربة. هذه الثلة اليوم تمثل السوسيولوجية أحسن تمثيل بالعديد من الجامعات المغربية وعليها يعلق الرهان لجعل السوسيولوجيا اليوم في مواكبة التحولات والتغيرات التي يمر بها المجتمع المغربي.

بالنسبة للجيل الحالي الصاعد لديه هو الآخر أهدافه بكل تأكيد ورؤيته الخاصة للسوسيولوجيا وللعالم وللأشياء ولذاته ، لكن لم تتضح بعد معالم رؤيته وفعله السوسيولوجيين. غير أن المطلوب منه أولا هضم هذا التراث السوسيولوجي المتراكم بالمغرب منذ عقود، وإعادة قراءته وتمحيصه على ضوء المستجدات الحالية. ثانيا، الاستفادة من السوسيولوجيا الأنغلوساكسونية، التي تطورت كثيرا واستفادت منها العديد من الدول ككندا واسبانيا. ثالثا التفكير في المناهج التي أعتبرها في غاية الأهمية بالنسبة لهذا الجيل الصاعد. رابعا التفكير في الإنفتاح على لغات العلوم الاجتماعية اليوم خصوصا اللغتين الإنجليزية والإسبانية. خامسا التجديد في اختيار مواضيع البحث وطرق إنجازها: فبدل الاهتمام بإشكاليات سياسية أو دينية او قبيلة ذات طابع تاريخي، واجترار نفس المواضيع الكلاسيكية وجب تجديد مواضيع البحث وتكسير التقليد الاكاديمي للبحث السوسيولوجي السائد بالمجتمع المغربي وتطويره لكي لا يبقى مقيدا لعلمية الإبداع في بناء موضوع البحث. لذلك يجب الاهتمام أكثر بإشكاليات نعيشها حاليا. فهناك مفارقة، وهي أن المجتمع يعرف تحولات كبرى، بينما السوسيولجيا بطيئة ومتأخرة عن مواكبة هذه التحولات.

Medina

نحن مع الأسف لا نفهم ما يجري داخل المجتمع المغربي. المجتمع يفوقنا. فمثلا عندما نقوم بدراسة ظواهر معينة، نجد أن الموضوع السوسيولوجي أي الظاهرة أو الفعل الاجتماعي تضخم، لكن المنتوج ما زال محتشما وضعيفا بل منعدما في العديد من الأحيان وحول العديد من المواضيع التي لا يوجد لدينا أي تراكم سوسيولوجيا بصددها على رغم من اهميتها. فمثلا قضية الإجهاض مؤخرا ولدت نقاشا عموميا موسعا لم يكن فيه الخطاب السوسيولوجي حاضرا نظرا لغياب تراكم في هذا المجال مع استثناء واحد وهو عبد الصمد الديالمي الذي كان طرفا في إثارة الموضوع نظرا لاشتغاله عليه سابقا.

بالتالي، يجب أن تتم اليوم إعادة الاعتبار إلى السوسيولوجيا من طرف الدولة أولا. فالدولة لا يمكن أن تسير المجتمع من دون أن تفهمه. ولكي تفهم البطالة أو الهشاشة أو المرض أو التحولات القيمية، يجب إجراء دراسات علمية معمقة حول هذه الظواهر. إذن لا يمكننا أن نفهم المجتمع ونطوره دون أن ننفتح على عالم الاجتماع، فالسوسيولوجي هو طبيب المجتمع. في هذا الإطار جاء مجهود هؤلاء الشباب الباحثين أولا من أجل هضم المنتوج السوسيولوجي المحلي أولا، وفي أفق مساءلته نقديا ثانيا.

مهمتنا الأولى اليوم هي الفهم والتفسير وفق تقاليد وضوابط البحث السوسيولوجي العلمي، وثانيا أن يتحول هذا الفهم وهذا التفسير إلى قوة مؤثرة لدى المسؤولين وأصحاب القرار حيث يصبح للسوسيولوجيا وجود وفاعلية في المجتمع، تستطيع من خلاله تعريف المجتمع بذاته والكشف عن الروابط الخفية للهيمنة التي تكبل تطوره، لعلاقة السلطة بالمعرفة وبالمجتمع. وذلك من خلال المساهمة في تعرية واقع المهمشين اللامرئيين، أولائك الذين يعيشون بعيدا عن المركزيات مركزية المجال والمعرفة والخطاب والسلطة والثروة والصحة…