لم يكن ممكنا لأي منا التفكير، سابقا، في بلورة بيان أو خطاب سياسي أو برنامجي حزبي، دون البدء بتأطيره بتحليل ما للمحيط الدولي والإقليمي.
كان لهذه اللازمة ما يبررها، ربما، في فترة كان النظر فيها إلى الداخل من زاوية ما يجري أساسا في الخارج، على اعتبار انه يشكل الإطار العام للممارسة. أي ضرورة الانطلاق من العام إلى الخاص في العملية التحليلية. غير أن تأثيرات ذلك التأطير السلبية لا تحضر عادة مدبجي الخطاب السياسي الحزبي عند بلورته مباشرة، مع العلم أن الحرص على تأطير الممارسة السياسية على قاعدة معطيات ما يجري في الخارج، وفي بعض الأحيان، على مجرد فرضيات أو انطباعات حول ما يجري هناك، يدفع، لا محالة، باتجاه ملاءمة تحليل الواقع الوطني مع ما تم تقديمه بأنه الواقع الدولي أو الإقليمي في جملته أو في تفاصيله.
وفي هذا سجن حقيقي لمقاربة الواقع في إطار لا ينطلق من معطياته الفعلية، باعتبارها أساس كل تحليل قد يفتح الباب أمام فهمه، قبل العمل على تغييره. ما دام هذا هو هدف العمل السياسي الحقيقي.
ومن سلبيات بلورة الخطاب على معايير أو معطيات لا علاقة لها بالواقع الفعلي للمجتمعات المعنية، بروز وإشاعة نظرية المؤامرة لتفسير كل شيء، مهما كان صغيرا أو كبيرا، إلى درجة نجد فيها أنفسنا مع قوى سياسية لا تتصور حتى مجرد إمكانية تحملها جزءا من المسؤولية في النتائج التي تحصدها في ممارساتها في ميادين الفعل السياسي المختلفة.
فأمام العجز على اجتراح نموذج تنموي يراعي معطيات الواقع، المادية والبشرية، يتم التلويح بمؤامرة القوى الدولية، وخاصة المالية منها، لمنع كل توجه يضع مصالح المجتمع فوق كل اعتبار. غير أنه إذا كان صحيحا أن الدول العظمى ومؤسساتها المالية والتجارية تضع نصب عينها تكييف أي نموذج تنموي في البلدان التي تربطها بها علاقات مالية أو تجارية أو حتى سياسية ليتلاءم مع ما يتطلبه تطوير مصالحها وتعظيمها في مختلف المجالات، فإن هذا ليس يعني أنها ترعى النماذج التنموية الفاشلة، بل العكس، ربما هو الصحيح، إذ ليس لديها ما يمكن ربحه من نموذج تنموي فاشل عكس ما سيكون عليه الواقع مع كل تجربة تنموية ناجحة.
لذلك من الأجدى البحث عن أسباب أخرى ربما هي الأساسية في تفسير واقع العجز.
ومما لا شك فيه أن إنتاج خطاب سياسي على قاعدة تصور استاتيكي جامد حول الواقع الدولي الموسوم على الدوام بأزمة الرأسمالية العالمية أو القوى الإمبريالية التي تقود العالم، قد أضفى على خطاب القوى المعنية في بلداننا الطابع الدوغمائي الجامد إياه فمنعه من رؤية الواقع المحلي رؤية موضوعية قادرة على وضع تصورات، ولو أولية، لعملية التغيير، علاوة على انتقائية مزمنة في النظر إلى الواقع الدولي حيث يتم التركيز على ما يدعم فرضيات الإنطلاق، على مستوى الأزمة المزعومة للرأسمالية العالمية والقوى الإمبريالية والتي يتم الانطلاق منها إلى إضفاء طابع مناقض على واقع حركات التحرر العالمية واستمرارها في صعودها نحو دك محتوم لمعاقلها في الغرب بفضل دعم هذه القوى العالمية أو تلك خاصة ما كان سائدا خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
فهل هذا يعني تجاهل ما يجري من أحداث وما يتم الاشتغال عليه من استراتيجيات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية على المستويين الإقليمي والدولي؟ إن مجرد التفكير بالجواب الإيجابي على هذا السؤال، مجانب للصواب، ليس لاستحالة العيش على قاعدة قطيعة جذرية مع تلك السياسات والاستراتيجيات فحسب، وإنما أيضا، لأن التحليل الملموس للواقع الملموس لا يلغي النظر إلى ما يجري في المحيط القريب والبعيد والعمل على تفادي الوقوع تحت تأثير سلبياتهما والإستفادة مما يمكن أن يساهما به في بلورة أفق عام للممارسة.
وبإيجاز شديد إن ما تتم الدعوة إليه هنا هو التحرر من قيود الإطار الدولي التقليدي، في مقاربة الواقع الوطني المحلي لفائدة معطيات هذا الأخير التي ينبغي أن تظل موجهة للعملية السياسية خارج كل محاولة للتملص من المسؤوليات المترتبة على ممارسة القوى السياسية المحلية بخصوص نتائج ممارساتها إيجابا أو سلبا وعدم الركون إلى البحث عن شماعات الوضع الدولي أو الإقليمي وتفسير كل شيء بعنصر المؤامرة.
ويبدو لي أن جدلية العلاقة بين المؤثرات الخارجية والمعطيات الداخلية، حيث لا تأثير للخارج إلا منطق بنيات وتناقضات ما هو داخلي، ما تزال تحتفظ بقوتها وببعدها التحليلي الخلاق.
اللهم في حالة التدخل الاستعماري العسكري المباشر الذي يدخل في إطار نوعي مخالف تماما
وهو ليس موضوع هذه المعالجة.