المواطنة

خلال العصور الوسطى، كان قد حدث ثمة فرز للناس على أساس ديني، للمناطق والأقاليم. ففي الشرق الأوسط غلب الإسلام، مع وجود أقليات متعددة. وفي أوروبا سادت المسيحية بمناطقها المختلفة. وفي الشرق الأقصى كانت الهندوسية تغلب في الهند وفي بعض المناطق الملاصقة، بينما توزعت البوذية – بشقيها الشمالي والجنوبي – في باقي المناطق. وفي فرنسا، كان الناس موزعين توزيعاً طبقيا. فالأشراف في طبقة الأشراف، ورجال الكهنوت في طبقة رجال الدين، وباقي الناس في طبقة العوام. وكان المجلس التشريعي (آنذاك يسمي مجلس طبقات الأمة) لا يستوي على أساس حزبي بحيث تكون الغلبة للحزب الذي يفوز بأغلبية الأعضاء، لكنه كان يقوم على أساس الطبقات الثلاث، وكان ذلك واضحاً في اسم المجلس النيابي ذاته. وكانت كل طبقة منها ثابتة متحجرة، لا يمكن الانتقال منها إلى أي من الطبقتين الأخريتين. فران الجمود على كل طبقة، وكان التمثيل النيابي تمثيلاً يرعى شئون الطبقة النافذة بحيث يندر أن يُعني أحد الأشراف أو واحد من رجال الدين بطبقة العامة، إلا من قبيل التجمّل والتكرم والتفضل، لا دفاعاً عن مصلحة هذه الطبقة ولا رعاية للأمة الفرنسية ككل، لأن مفهوم الطبقات الثلاث كان يجعل من أبناء كل طبقة كتلة ملتصقة بطبقتها، بحيث لا يجد الفرد العدل والأمان إلا في طبقته وفي تحقيق مصالحها، فيصعب بذلك، إن لم يكن من المستحيل، أن تنشأ إلا للمفكرين، لا للسياسيين ولا لغيرهم، انتباهه إلى مصالح الأمة ككل ولو كان ذلك ضد مصالح طبقته.
قدم المفكرون أمثال فولتير وديدرو ومونتسكيو وجان جاك روسو مفاهيم جديدة عن حكم الشعب وحرية الفكر والعمل وحقوق الإنسان، وصادف ذلك نشوء المدن التي تقيم فيها الطبقة البرجوازية (نسبة إلى لفظة “برج” العربية، لأنهم تكونوا من التجمع حول الأبراج التي كانت تقام فيما بين الاقطاعات، حيث يتزود المسافرون فيها بالطعام أو يستطيعوا المنام) وكانت هذه المدن بطبيعتها، بعيدة عن الإقطاعيين مستقلة عن رجال الدين.
وفي الجو العام الذي نتج عن الاستنارة، ولضائقة مالية وقعت فيها الدولة، ذاب الشعور الطبقي أو تخلخل، فبدأ عدد من الأشراف ومن صغار رجال الدين في الانضمام إلى العامة، وطالبوا جميعاً بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية شاملة، وغيروا اسم “مجلس طبقات الأمة” إلى أن يكون “جمعية وطنية”. وبهذا بدأت الأمور تسير في اتجاه الثورة، فاندلعت الثورة الفرنسية (عام 1791م). كان أهم نتاج الثورة إلغاء نظام الطبقات، واعتبار أن فرنسا كلها مدينة واحدة هي وطن للجميع، وبهذا نشأ مفهوم المواطنة (بالفرنسية Citoyen وبإلانجليزية Citizen )، ومن مقتضي ذلك أن صار كل الأفراد الفرنسيين، مهما كانت الاختلافات بينهم، جنسية، أو طبقية، أو معتقدية، مواطنين، يستمد كل مواطن منهم حقوقه ويعرف التزاماته من الدستور الذي وضعته الأمة كلها بمندوبين عنها. وفي مصر، وفي البلاد العربية، كان كل فرد فيها خلال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وفي بعض البلاد، حتى القرن العشرين “رعية عثمانية”، أي إنه كان رعية للسلطان العثماني في الأستانة أو لولاته الذين يُعينون منه لمباشرة أعمال الحكم التي كانت تهدف إلى السلب والنهب. وكانت فكرة الحقوق العامة خافية وغير معروفة، لأن السلطان وولاته، كانوا هم الذين يمنحون الحق وهم الذين يفرضون الإلتزام، وليست للشعوب كلمة أو حتى احتجاج، فحوّلهم طول القهر إلي أن يكونوا مستسلمين لا يفكرون في تغيير شيء إلا أن يغيره الله، في حين أن القاعدة القرآنية عكس ذلك إذ تقرر أن “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”.
وفي مصر، عند وضع دستور 1923، كانت مصر قد استقلت عن السلطنة العثمانية، فاتّجه مشرعو الدستور إلى إبتناء ما سموه “الدولة المصرية” على مفهوم المواطنة. هيأ لذلك أن كانت ثورة 1919 قد أذابت بتوهجها أي مفهوم عنصري أو قبلي أو معتقدي، وصار الكل مصريين، يرسم الدستور حقوقهم والتزاماتهم، فسيستمدون منه الحقوق ويؤدون الإلتزمات، وفقاً لما رسمه الدستور، وما صدر من قوانين مكلمة له. ووجد كل مواطن الأمن والعدل في هذا الوضع الذي كان الكل فيه مصرياً، فلا تتوزع الأمة بين مسلم وقبطي، أو بين حضري وبدوي، أو بين مزارع وموظف، أو بين مصري ونوبي…. وهكذا، عاشت مصر كتلة واحدة يتداعى كل مواطن فيها بكل المواطنين، ويجد في هذه الرابطة راحة عظمي وسعادة بالغة.
عندما قام الانقلاب العسكري في 23 يوليو 1952 حدث تلاحم شديد وسريع بين الضباط الإنقلابيين ومن أيدهم من صغار الرتب، وبسرعة أدى هذا الوضع إلى وجود استقطاب حاد بين العسكريين والمدنيين. وإذ حَكم العسكر وكانوا في كل أعمالهم قليلي الخبرة، متعجرفي الطباع، قصار النظر، رافضين للمشورة، فقد كان نتيجة ذلك أن تفتت المصريون في طبقة العسكرتاريا (التي كانت مقصورة على قادة الانقلاب والموالين لهم من الضباط) وطبقة المثقفين (التي كانت تنكر إستيلاء العسكر على السلطة وعلى حكمهم برعونة وتسرع، وبنظرة جزئية قصيرة المدى. وكان ضمن المثقفين كثير من الأقباط). وتوالي التفتيت بين مزارع وإقطاعي، مستأجر ومالك، عامل وموظف، أهل الخبرة وأهل الثقة، الموالين للثورة وأعداء الثورة، مشجعي نادي الأهلي ومشجعي نادي الزمالك، الصعايدة والبحاروة.. وهكذا. وبصدور قانون الأزهر عام 1963 لسحب البساط من تحت الإخوان المسلمين نشأت طبقة علماء الدين وصارت على الضد من المتحررين (الليبراليين) والمستنيرين. ثم، اعتباراً من سنة 1970، حدث تفتت على أساس ديني كانت نتيجته وجود إسلاميين، ومسلمين، وأقباط ( وكانت مشكلة الأقباط قد بدأت مع مشكلة المثقفين، قبل ذلك، ومنذ بداية الانقلاب ). كان من شأن أسلوب الحكم الجاهل الأرعن المستبد انه لم يعد أحد يجد نفسه وعدله وأمنه إلا في مجموعة خاصة به لا في المواطنة، إذ لم تعد هناك ثقة بالدستور الجديد، ولا بغابة القوانين ولا بنظم الحكم. ولما بلغ التقصير من السلطة حاجات الناس من خدمات تعليمية، واقتصادية، ومعيشية، وجدوا البديل فيما تقدمه الجماعات الإسلامية للفقراء والمعوزين، وما تقدمه الكنيسة لمن تعوزه حاجة من الأقباط. فزاد التصاق مُقتضِي الخدمات أو طالبيها بمن يوفرها لهم، ونأوا عن السلطة وعن مفهوم المواطنة، ووجد أغلب الناس أنفسهم غرباء فيما كان وطناً لهم. وزاد الأمر سوءا على سوء أن أبناء العمال والفلاحين الذين كان الانقلابيون يجتذبونهم بما يسمي مكاسب الثورة (!!) هؤلاء الأبناء تلقوا التعليم وصاروا مؤهلين بشهادات عليا (في الغالب)، ولزيادة أعداد حملة الشهادات فقد طال خط المتعطلين طالبي الوظائف، ولم يعد هؤلاء يشكرون منْحهم فرص التعليم، بل تحولوا إلى ناقمين من طول البطالة، وتقاربت مشاعرهم الناقمة من أعباء التبطل مع مشاعر غيرهم، ممن كانوا يٌعتبرون أعداء لأهاليهم في بداية الإنقلاب، واقتصرت بعض الوظائف على إيجاد وساطة نافذة أو دفع رشوة ضخمة، لم يكن الكثيرون من طالبي العمل قادرين على هذه أو تلك. وتطور الإحباط إلى غضب، والغضب إلى نقمة، فزاد عدد المنكرين للمواطنة، ولم يعد الكثيرون يجدون لها مفهوماً أو مدلولاً أو يرون منها رعاية أو حماية. ثم كانت المرحلة الأخيرة عندما بدأ بعض الإسلاميين (أنصار الإسلام السياسي) يعتدون بالهوية الإسلامية وحدها، ويرون أن “الإسلام وطن”، وأن غير المسلمين من أهل الكتاب، أقباطاً، أو يهود، هم في ذمة الإسلام، أي من أهل الذمة. بذلك اختفت المواطنة المصرية تماماً، وأصبح الحديث يجري على أساس المسلمين (وهم الإسلاميين) أو الاسلامويون وأهل الذمة من الأقباط، وهم نسبة كبيرة من المصريين. ودفع هذا أقباط مصر إلى أن يُهرعوا إلى الكنيسة، يجدون في رحابها الرعاية ممن يهدد مواطنتهم، والحماية ممن يسفّه معتقدهم. وانتقل هذا الفهم الخاطئ إلى بلاد أخرى فأصبحت تجري قسمة المواطنين، بين حركات وطنية وحركات إسلامية.
وأصل فكرة أهل الذمة أن السكان الأصليين لمدينة روما (ويطلق علهم لفظ “الممادنين”، نسبة إلى المدينة) كانوا يرفضون أن يدخل مدينتهم من ليس من ممادينها وإلا جاز لأي ممادن روماني أن يضع اليد عليه ويكتسب ملكيته لأنه قد صار عبداً أي رقيقاً باعتباره Pagan أي ما يفيد معني الوثني حالاً (حاليا). وكان لا بد في مثل هذا الوضع القانوني أن يبحث له عن أحد يحميه فيدخل روما في حمايته (بإلانجليزية Protege وبالفرنسية Protegee وباللاتينية Protegere (يراجع قاموس Oxford). ولا بد أن هذا الفكر كان قد نفذ إلى الإسلام في عهد النبي، لأن ما نُقل عنه أن أهل الكتاب في ذمته (هو شخصياً)، وهو ذات الفهم الذي يجعل غير المسلم، مسيحياً كان أم يهودياً، شخصاً في ذمة النبي، أي في حمايته. وقد ظل هذا المفهوم سائداً إلى ما بعد وفاة النبي، غير أن التعبير قد عُدّل إلى أن يُقال أن أهل الكتاب هم في ذمة المسلمين. ويقول بعض الإسلاميين أن ذلك يعني أن يكون “لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على هؤلاء المسلمين”، وهو تعبير غامض يردده القائل كالببغاء دون أي تمعن فيه. فهل يكون على أهل الذمة حق الصلاة والزكاة والصوم والحج، التي هي على المسلمين؟ فإذا لم يكن الأمر كذلك فهلا تحددت الحقوق وتبينت الإلتزامات وتوضحت إجراءات هذه الالتزامات وتلك الحقوق، فيظهر ما هو من الدين وما هو من الحياة؟ ومن المسئول عنها تحديداً؟ وكيف يكون التصرف إن ظلم أو غدر أو اخلّ بذمته؟
إن المواطنة أرقي وأسمى وأدق وأضبط مفهوم وصلت إليه الإنسانية. فلقد كان الشخص يُنسب إلى مدينة، كالممادن الروماني، أو لعقيدة فيقال إنه يهودي أو مسيحي أو مسلم، أو يُنسب لغير ذلك من قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وشيع، ومازالت هذه تبدو لقبا في بعض الأسماء. وقد تتبعت الدراسة نشوء فكرة المواطنة وكيف أنها تُحقق المساواة بين الجميع، وتنفي التبعية والرعوية لحاكم مهما كان، فتجعل الحقوق والالتزامات نابعة من دستور يُتفق عليه ويصدر عن آباء الشعوب فيلتزم به الحاكم والمحكوم، فيما حدد لكل من حدود وحقوق والتزامات، فإذا حدث تجاوز من أي شخص رده القانون إلى حدّه.
فإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يدعو البعض إلى استحياء الهوية الدينية التي كانت سائدة في القرون الوسطى وقبل أن تظهر فكرة المواطنة، بما فيها من عدالة ومساواة؟ هل تتقدم الشعوب أم ترجع القهقرى؟ هذا هو الشأن في مصر، وهو على نحو ما، ما ينطبق على كثير من الشعوب العربية، التي مازالت ترسف في القبائلية والعشائرية والثقافات الفولكورية وفي الطائفية والمذهبية، وربما يتخذ الأمر مدى بعيداً إلى أن يتحقق مفهوم المواطنة، أو تنشأ ثقافة خاصة تروّج له وتبين مزاياه. ولا يكون رفض مبدأ المواطنة إلا بسبب التعالي الكاذب والعنجهية المريضة والجهالة المطبقة، وأمثال هؤلاء هو من قال فيهم الشاعر أحمد شوقي (بتصرف)
لاقي الزمان تجدهموا .. عن ركْبه متخلفين هم في الأواخر مولدا .. وعقولهم في الأقدمين.

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *