محمد العربي المساري… صوت من المستقبل

ووري الثرى، على بعد أمتار قليلة من القبر الذي يرقد فيه زميله وصديقه الوفي، في جريدة “العلم” أقدم الصحف الحزبية المغربية. أصبحا متجاورين مثلما كانا في مقر الجريدة التي انتقلت مكاتبها الآن، من شارع علال بن عبد الله بوسط العاصمة الى ضاحيتها.
عبد الجبار السحيمي، الأديب والكاتب الصحافي ذو الأسلوب الرشيق، هو الذي سبق محمد العربي المساري الى دار البقاء، بينما غادر المساري هذه الدنيا يوم السبت الخامس والعشرين من يوليو، عن عمر تجاوز بأيام التاسعة والسبعين عاما؛ فقد ولد في الثامن من شهر وفاته عام 1936 وهي السنة التي اندلعت فيها الحرب الأهلية الاسبانية، بين الجمهوريين والمدافعين عن عودة الملكية والكنيسة؛ انتهت بانتصار المحافظين بزعامة فرانكو.

المزيد: رحلة صحافية مع محمد العربي المساري إلى بلاد السلطان قابوس

ومن المفارقات ان يرتبط مسار المساري الفكري والإعلامي، بالشأن الإسباني، إذ كان يجيد اللغة الاسبانية إجادة تامة، كتابة ونطقا؛ ما جعله احد ابرز المختصين المطلعين على المشهد السياسي والفكري والاعلامي في إسبانيا الحديثة، بشهادة الإسبان أنفسهم.
فقد المغرب حقا، برحيل المساري، أحد أبرز وجوهه الإعلامية بعد الاستقلال. عشق مهنة الصحافة منذ ان كان تلميذا في الثانوي، يشرف على الجريدة الجدارية في المعهد الذي درس بِه في مدينة تطوان، مرتع طفولته وصباه.
لفت النشر على الجدار، أنظار المشرفين على إذاعة تطوان المحلية، وكانت عاصمة المنطقة الخليفية المحتلة من طرف إسبانيا الى حين استقلال المغرب عن الدولتين الحاميتين. تابع المشرفون على الإذاعة، موهبة الفتى المساري وميله الفطري الى الصحافة؛ فكلف بمعيّة صديقه الوزير، محمد بن عيسى، بإعداد برنامج يهتم بمواهب الناشئة، اطلقا عليه اسم “دنيا الشباب”.
لم يهتم البرنامج، كما يوحي اسمه بالمواضيع الترفيهية التي تروق تلك الفئة العمرية، بل تجرأ الشابان، بن عيسى والمساري، ولكل منهما موهبة في التذييع والإلقاء الجاذب للاسماع؛ على اقتحام المواضيع الجادة، فتركزت عليهما الأنظار أكثر من ذي قبل، بالنظر الى ان شمال المغرب وجنوبه محتلان، مع فارق أن السلطات الاسبانية تعاملت مع وسائل الاعلام الناطقة بالعربية في تطوان بنوع من “التسامح” تتراجع درجته احيانا تبعا لتقلب مزاج الرقيب ولتطور أشكال المقاومة التي يبديها السكان بين الفينة والأخرى، بتوجيه وتحريض من الحركة الوطنية في المنطقة الشمالية بقيادة حزب الإصلاح الوطني وزعيمه الراحل عبد الخالق الطريس.
أهمية ذلك النشاط الصحافي الذي انخرط فيه المساري، وهو فتى مراهق، كشف عن مكون طبع شخصيته على الدوام الى ان لاقى ربه. يتعلق الامر بتوقه الى المستقبل وسعيه الى تطوير المهنة وقبلها أدواته المهنية وخاصة وقد اصبح صحافيا مكتمل الشروط، قادرًا على التأثير في المنبر الذي يشتغل به. ذلك ما جربه بالضبط لما انتقل الى الإذاعة الوطنية في الرباط عام 1958.
أتاح له الراديو، فرصة الاتصال بالجمهور الواسع، فأحس ان دعم الأواصر مع المستمعين، يلقي عليه بمسؤولية تقديم الجديد والمبتكر المفيد، وإلا هجروه؛ لا ضير إن كلفه ذلك بحثا مضنيا في الارشيف والاستماع الى عدد من التسجيلات، ثم كتابة نص مشوق يخاطب كل المستويات، يربط بين محتويات الحلقة الإذاعية.
لعل البرنامج النموذجي الذي أعلن عن توجه المساري، نحو الجديد والنظر بعيدا نحو الافاق الخارجية هو “موسيقى الشعوب”و كان يذاع صبيحة يوم الأحد، وفيه حرص معده على التعريف بأنماط موسيقى الشعوب من خلال اعلامها او تراثها.
لم يكن الراحل ذا ثقافة موسيقية أكاديمية، ولكنها العصامية والبحث الدؤوب والترتيب المنهجي.
يذكرني الراحل في هذا الصدد بالصحافي الفرنسي الشهير “جان لا كوتير” الذي عاش في المغرب لفترة وجيزة، أيام الحماية ورحل عن الدنيا قبل المساري بحوالي أسبوعين عن عمر اقترب من الخامسة والتسعين.
الصحافي الفرنسي الذي اصبح مرجعا في بلاده، كان يؤمن بان الصحافي ملزم بامتلاك ثقافة عامة واسعة، تمكنه من معالجة اي حدث صادفه أو أوردته قصاصات الأنباء، حتى تستوفي المادة الصحافية التي ينجزها كافة الشروط الخبرية الكاملة، احتراما لقواعد المهنة وأخلاقياتها.
يلتقي المساري مع “لا كوتير” في كثير من الصفات الصحافية، بينها الاهتمام بصنف من التاريخ، اطلق عليه “التاريخ الراهن” تمييزا له عن التاريخ التقليدي الذي يفرض على المؤرخ التريث وانتظار الوقت الكافي والبرود الموضوعي، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ بينما تمتزج الكتابتان التاريخية والصحافية في “التاريخ الراهن او السريع” باللحظة الساخنة، ان شئنا الترجمة الحرفية لـ histoire inmédiate وهذا الملمح هيمن على مجمل الإسهامات التاريخية عند المساري. اعتمد سلاسة الأسلوب المنمق ببهارات ادبية وبلاغية محببة، لكن دائما في إطار وضوح المقصد والحرص على تنوير القارئ.
وكان بإمكان المساري، بالنظر الى انكبابه على العمل، ان يكون حجم إنتاجه، من ناحية الكم على الأقل أغزر في مستوى الصحافي الفرنسي الراحل، لكنه لم يكن له حظ العمل في مؤسسات صحافية راسخة مثل التي وفرت للفرنسي الامكانات المادية، بينما ظل راتب المساري متواضعا لم يتناسب أبدا مع ما بذله من جهد مضني وبإخلاص، اذ كان يعتبر الاشتغال في صحيفة معارضة، جزءا مكملا لنضاله الحزبي وقناعاته الاخلاقية.
ويعرف المهتمون بالشأن الإعلامي، كم حاول الراحل المساري، الارتقاء بالمهنة، في جريدته “العلم” اولا ثم في نقابة الصحافة حيث كان أفضل نقيب عرفته المهنة والأقرب إنسانيا الى المنتسبين اليها، ليس انتقاصا من قيمة من سبقه وإنما لكونه كان أكثرهم تعلقا بالمستقبل الذي ظل يطوف حوله دون ان يصل الى مبتغاه. استحال عليه تنفيذ أفكاره في الصحافة الحزبية التي لها وظيفة تعبوية محددة لاستقطاب الانصار في الانتخابات، وبالتالي فإنها لا تهتم بالمظهر الجذاب، تحريرا وإخراجا وطباعة. والسبب واضح: ضعف الإمكانيات المادية وأيضا قصور في خيال أرباب المقاولات الصحافية.
كانت أعطاب الصحافة الحزبية المغربية في مرحلة تاريخية ولت، أشد إيلاما للمساري من أوجاع الأمراض التي عانى منها الراحل. وأفترض انه انه ودع الحياة وهو غير راضٍ عن حال الصحافة والإعلام في المغرب. ربما لو امتد به العمر لرأى بعض أحلامه تتحقق، لانه لم يتوان وهو في حالة الضعف الجسدي،عن الاستجابة لنداء الواجب المهني.
الصحافة بأصنافها، ملكت قلب، المساري. لم يطلقها وقد تدرج في المناصب: عضو في البرلمان ورئيس فريق حزبه، ثم جاءته السفارة ولم يسع اليها، وأخيرا شاء التحول الديموقراطي الذي عرفه المغرب عام 1998 ان يصبح المساري وزيرا لقطاع الاعلام والاتصال.
لو وصل غيره الى ذلك المنصب، لفضل الراحة على وجع المهنة، لكن الوزير الجديد القادم من النقابة وساحة النضال الحزبي، أصر ان يبقى صحافيا ممارسا. لم يحس ان الكرسي الخشبي الذي تركه في جريدة “العلم”، يختلف عن الوثير الهزاز الذي وضع له في مكتب بالوزارة.
واللافت ان اول نشاط قام به الوزير الجديد، الدعوة لاجتماع مع غرفة التحرير في الإذاعة والتلفزيون، لمراجعة الأساليب التقليدية في تقديم النشرات، والبحث صيغ تطوير ما يوفر خدمة عمومية موجهة لمشاهد ومستمع يقيس التغيير بما يلمسه في وسائل الإعلام الحكومية، فهي المؤشر على تغيير السياسات العمومية.
لقي المساري معارضة من جيوب مقاومة التغيير. بعضهم تضايق من وجوده معهم، يناقشهم، وجها لوجه، في طرق اشتغالهم. كثيرون رفضوا التخلي عن عادات مهنية تربوا عليها وألفوها لانها لا تكلفهم اي مجهود.
أصيب الوزير المتفائل والطموح، بخيبة أمل، وصدم في فئات من المنتسبين الى حقل الاعلام الرسمي. لم يكن بمقدوره ان ينجز سوى الحد الأدنى من اجندته التي حملها معه الى الوزارة. فماذا فعل؟ ببساطة، حرر استقالته ووضعها في جيبه، مستعدا لإخراجها في أية فرصة سانحة. انتظر على مضض اقرب تعديل حكومي وأصر على ان يكون في طليعة المغادرين، رافضا ان يبقى غريبا في تشكيلة حكومية لم تشاطره نفس النظرة وتقاسمه ذات الرؤية الى الاعلام ووظيفته في مجتمع ناهض.
وبخروجه من الوزارة، بات مقتنعا ان النضال الحزبي لا يختلف في العمق عن العمل الإعلامي. العلل متشابهة، فاتخذ قرارا بالمغادرة الثانية، تاركا موقعه في قيادة الحزب، حيث لم يعد لصوته صدى وهو المنادي بالإصلاح العميق للبنيات الإدارية والذهنية.
خلال سنواته الاخيرة، وزع المساري جهده، بين إكمال بعض مشاريع التأليف، والكتابة غير المنتظمة في بعض الصحف الجديدة المستقلة، يحس بغصة الألم، من الصحافة الحزبية التي أفنى فيها عمره وخذلت أفكاره بقصد او بدونه.
كان وطنيا، مخلصا ونبيلا في سلوكه زاهدا في متاع الدنيا لا يملك غير كتبه، مستعدا للتخلي عن أي امتياز سوى التشبث بمهنة اعتبرها مدخلا لأي إصلاح في المجتمع، مثلما آمن بذلك رواد النهضة والإصلاح في تاريخ العرب الحديث.
سيظل صوته يصدح في الفضاء مناديا ومنبها الى ضرورة انخراط الاعلام المغربي في ركاب المستقبل بكل تجلياته المعرفية والتكنولوجية. فمن يسمع ومتى؟
هذا جانب من سيرة عطرة.

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *