برناردينو ليون.. إطفائي النزاع المسلح في ليبيا

لا ينجح كل مبعوثي الامم المتحدة بسهولة وبسرعة،في المهام السلمية التي انتدبهم اليها الامناء العامون للمنتظم الدولي.
كثيرون، ضاقوا ذرعا بالمصاعب والاشكالات المعقدة التي واجهتهم في مناطق التوتر، فحزموا حقائبهم، يائسين من امكانية جمع الفرقاء المتصارعين، مفسحين المجال لغيرهم من الدبلوماسيين المحنكين،وخاصة اولائك الذين تكون لهم خلفيات امنية او عسكرية وطول باع في التفاوض السري ؛ على اعتبار ان الازمات الاقليمية في كثير من المناطق تتكلم فيها لغة السلاح بين المتصارعين ويسودها منطق القضاء على الخصم وابادته.
الدبلوماسي الاسباني،برناردينو ليون غروس، الوسيط الاممي الحالي بين المتحاربين في ليبيا، هو دبلوماسي من طراز خاص. يصعب في عجالة الاحاطة بتفاصيل مساره المهني المكلل بالنجاحات الواحد تلو الاخر، منذ ان جلس على مقاعد الدراسة،في كافة اطوارها حيث راكم النتائج الجيدة والدرجات الممتازة، بشهادة اساتذته،في الجامعة وخاصة في كلية الحقوق بمدينة، مالقة، الاندلسية وبعدها في معهد الدبلوماسية بمدريد.
كاتب الدولة السابق، والامين العام لرئاسة الحكومة الاسبانية، في ظل حكم الاشتراكي، خوصي لويس ثباطيرو، يتمتع بصفات قد تبدو في ظاهرها متناقضة : فهو معروف منذشبابه بحب المخاطرات واقتحام الصعاب، ليس في مجال الرياضات البدنية التي يعشقها مقل تسلق الجبال، وإنما ايضا في نزوعه القوي نحو اقتحام الازمات المستعصية، بغية ايجاد حل ومخرج لها ومنها.
وهذا ما يفسر قبوله بالتكليف الصعب الذي رشحه له،بان كي مون، في ليبيا، عله يعيد الامن والاستقرار لبلد تركه معمر القذافي،بلا دولة ولا مؤسسات ولا مرجعيات يمكن الاعتماد عليها، حتى النسيج القبلي مزقه وزرع العداوة والبغضاء بين المناطق لضمان استمرار استبداده.
وبالعودة الى ما كتب عن “ليون” في الصحافة الاسبانية، في سياق المهام التي اسندت اليه ؛، يمكن الامساك بالموجه الذي يتحكم في الوسيط الذي ولد عام 1964. في مدينة مالقة بالاندلس. هو سليل عائلة” غروس ” التي نزحت من شمال المانيا نهاية القرن 18 فاستقرت في بلاد الاندلس، قريبة من موطن الاسلام في المغرب،وحيث ما زالت اثار العرب شاهدة على مجدهم الضائع في الفردوس المفقود.
فماذ ا يمكن ان يرث عن اسرته، شاب طموح مثل،برناردينو او برنارد، باختصار كما يناديه اصدقاؤه؟
طبعا، سيرث التفكير العميق والدقيق والتاني في بحث القضايا التي ينكب عليها وحب الاطلاع والاستطلاع المعرفي والقدرة المتاصلة في النفس على الإصغاء للآخرين مهما كانت غرابة منطقهم وشذوذ فكرهم.انها السمات الذهنية للجنس الجرماني.
ومن الغريب ان تقترن السجايا الفكرية التي انتقلت الى، برناردينو، من ابائه واجداده، الشغوفين بالثقافة، بحبه للحركة الدائمة وركوب المخاطر، اذ يحمل شهادة قيادة الطائرات الشراعية،شغوف بالترحال بين المدن والاوطان، بحثا عن الفائدة واغناء التجربة.
وذات مرة فاجأ الطفل، برناردينو، والدته بالقول “امي، اريد ان اصبح دبلوماسيا”!!
ضحكت الام من طموح ابنها لكنها في قرارة نفسها كانت تدرك انها انجبت مولودا نابها وذكيا،قد يكون له مستقبل باسم، دون ان يخطر ببالها انه سيصبح وسيطا في حل النزاعات الدولية عاملا من اجل اعادة السلم الى بلدان مزقتها الحروب والضغائن والمؤامرات والاطماع الاجنبية.
فما هي الادوات التي قرر “ليون” ان يمتلكها، باي ثمن، للوصول الى هدفه المبتغى وقد صار شابا واعيا بالتحولات الكونية وبطبيعة العلاقات التي تحكم الدول والشعوب؟.
اول اداة او مفتاح هي اللغات. الاسبانية، لغته الام، لا تكفيه للعب الادوار التي يصبو اليها، رغم ترتيبها العالمي المتقدم. واذن فليبدأ بالفرنسية القريبة اليه جغرافيا. هكذا سيسافر الشاب الى فرنسا ليتعلم لغة ” موليير ” في احضان احدى الاسر، ما سيتيح له لاحقا اكمال تحصيله في جامعة السوربون بباريس.
ويؤمن الوسيط في النزاع الليبي، ان الفرنسية لا تكفي ايضا. لا بد من اتقان الانجليزية لغة العصر والدبلوماسية العريقة لذا، يلزمه السفر الى مرابعها الاصلية في انجلترا، لتفتح له الابواب لاحقا في وزارة الخارجية ببلاده، وفيها تدرج في الوظائف في الداخل والخارج بينها اصعب مهمتين في ليبريا والجزائر، حيث شغل منصب قنصل بلاده، في ذروة الحرب الاهلية ؛ ما اضطره للابتعاد عن زوجته التي انجب منها ثلاثة ابناء،خوفا من انتقام ارهابي، والاقامة في حي بعيد عن اقامات البعثات الدبلوماسية في العاصمة الجزائرية.
قبل الجزائر، اشتغل،برناردينو،في سفارة بلاده بمنروفيا، وفيها امكن له متابعة ضراوة النزاعات المسلحة في بلدان افريقية، مستعيدا الافكار التي ضمنها في بحث انجزه بمعية زملاء له في الدراسة عن دور المرتزقه في حروب القارة السمراء.
ومن اليونان، اطل الدبلوماسي الشاب على ما يجري في العالم العربي. وفي اثينا تامل بعمق في ازمات ومصاعب الديموقراطية، وما يتهدد العالم من حروب اهلية.
عاد من تجربة الاقامة في بلد،ارسطو، بحصيلة لغوية لا باس بها، ستفيده حتما في مساره الدبلوماسي واذا ما احب قراءة المتون الاغريقية.
في هذا الصدد، ربما لا يعلم كثيرون،ان برناردينو، هو صانع الاتفاق الاول بين بلاده وبريطانيا، من موقعه ككاتب دولة في الخارجية، الى جانب صديقه، ميغيل انهيل موراتينوس ؛بخصوص شراكة متدرجة لتقاسم السيادة على الجو، بين مدريد وحكومة صخرة جبل طارق التي تطالب بها اسبانيا.
يرتبط، برناردينو، بشبكة علاقات وصداقات واسعة، ليس في الوسط الدبلوماسي بل في المحافل الثقافية والفنية، فهو مدمن على القراءة باللغات التي بات يتقنها، شغوف بالموسيقى الكلاسيكية والجاز. يقول اصدقاؤه ان سمفونيات الموسيقار “باخ” تصدح في ارجاء بيته، المزدحم بالكتب واللوحات التشكيلية وبعض الات الموسيقية،اذ يهوى برناردينو،في لحظات الهدوء والخلوة، ان يداعب او تار القيثارة التي يصطحبها في بعض سفرياته.
يدين، برناردينو، بالفضل لكثيرين، ساعدوه من أساتذة وأصدقاء وسياسيين، أعجبوا بمواهبه وجاهزيته لانجاز المهام الشائكة
بين هؤلاء المشجعين، يوجد رئيس الدبلوماسية الاسبق،ميغيل انخيل موراتينوس، وخورخي ديثكايار. كلا الرجلين اشتغلا في المغرب، ممثلين لبلادهما. الاول الذي اصبح وزيرا، كان مجرد دبلوماسي في السفارة بالرباط، اما الثاني فقد شغل منصب السفير بها، ومنه ناداه، خوصي ماريا اثنار، ليسند اليه رئاسة الاستخبارات الخارجية.
يجوز ان الوزير والسفير، زرعا في الشاب،برناردينو، غريزة الانتباه وحب الاستطلاع الى ما يحدث في العالم العربي من تحولات عميقة.
هكذا رايناه مشاركا فاعلا في مؤسسة الثقافات الثلاث باشبيلية، وراعيا لمؤسسة تحمل اسم موسيقيين هما الفلسطيني الراحل ادوار سعيد، واليهودي برينباوم، اللذين عزفا في حفلات مشتركة، رمزا للتقارب بين اليهود والعرب.
هل يقف الرصيد الثقافي والفني الذي راكمه بزناردينو، وراء نجاحه الاولي في ليبيا واقناعه الفرقاء المتحاربين على الجلوس وجها لوجه حول طاولة التفاوض؟.
قبول الاطراف المتباعدة، العودة الى بلدة الصخيرات، هو مؤشر على امكانية تحقيقه مبتغاه في الرهان الصعب.
واذا حمل البشرى للامين العام،بان كي مون، فسيحق له ان يخلو الى نفسه للاستمتاع بسموفونيات “باخ “وايقاعات الجاز، وربما راق له ان يداعب قيثارته، اذا حملها معه للصخيرات، على ايقاع امواج المحيط، تنسيه مؤقتا في لعلعلة الرصاص بليبيا الممزقة بين الفصائل.
ليس من مبالغة في وصفه من قبل زملائه ومعارفه بالدبلوماسي الإطفائي!!!

اقرأ أيضا

المغرب ودول إفريقيا وآسيا

ما هي الأبعاد الاستراتيجية للعلاقة بين المغرب ودول إفريقيا وآسيا ؟

خلال السنوات والأشهر الأخيرة، أحدث الملك محمد السادس نقلة نوعية في العلاقات الثنائية بين المغرب ودول إفريقيا وآسيا كما يظهر ذلك مقال لجون أبي نادر.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *