المهزومون في حرب غزة!

نحن شعب منتصر دوما! أليس كذلك؟ هكذا فاجأني أحد الأخوة من مرتادي الشابكة، وأضاف: هذه قيمة أخلاقية لا شك فيها لدينا، وهي قيمة نضالية لا نعترف أمامها بطعم الهزيمة لأنه طعم مر، ويكفينا مرارا، بل وأضاف إن نصرنا “الدائم” مرتبط بعدالة القضية الفلسطينية من جهة، ومرتبط أيضا بطبيعة التربية والثقافة العربية والإسلامية التي لا تعترف بالهزيمة بسهولة.
وقال بعنفوان: ولأننا شعب منتصر دوما، فإننا نجعل من كل الخسائر التي نتكبدها مقوما للاستمرار فلا نقعد ولا نتراجع ولا ننتكس ولا نتسربل بالإحباط، ولنا في عديد الكبوات والنكبات والنكسات والمآزق وصيحات (يا وحدنا) والدفاع عن القرار المستقل والانتفاضات الثلاث والعدوان لثلاث مرات متتالية على غزة النماذج الحية.
وأقول تعليقا على المنشور الهام للصديق : إن عدم جعل الهزيمة أو الفشل عائقا من الاستمرار والتواصل والحياة والابداع، هو عزيمة وشجاعة وصبر لا يتحلى به البعض بلا شك، وإن عدم الاستسلام للأزمة أو الاخفاق أوالفشل، نعم هو قوة إرادة ونَفَس للاستمرار ودوام النضال، ما يميز النضال الفلسطيني وشعبنا البطل الصامد.
إنه في الحقيقة الانتصار على النفس ونوازع السلبية والفشل والاحباط التي لا تلغي حُسن النظر في الخسارة، وكيفية التعويض والتعلم والاستفادة من الدروس.
إن عدم القدرة على رؤية نقاط الفشل أو الإخفاق أو مركبات الهزيمة في ظل الانتصار، ما نراه أو يراه البعض انتصارا فقط، يعدّ بحد ذاته هزيمة، هزيمة للوعي وهزيمة للفكر، وهزيمة للتعلّم، وهزيمة لسعي الشخص للنقد (في وقته ومكانه وأسلوبه) وهزيمة لفكر التطوير، والخروج من حالة المآسي الى حالة النصر أو الفوز المتواصل.
في الحرب الأخيرة على غزة اعتبر الكثيرون أن طرفا محددا (فصيلا بعينه، وكأن القضية منافسة فصائلية؟!) قد انتصر لقدراته العسكرية ولإمكانياته المذهلة عسكريا، ولمفاجآته للعدو من خلال الصورايخ التي دكت القدس وحيفا وعمليات الفدائيين خلف خطوط العدو، وعبر مفاجآت الأنفاق وأبابيل، وقد يكونوا محقين في ذلك، بينما رأى غيرهم أن أهم انتصارات غزة هي: صمود شعبها وتضحياته الجسام ومقاومته وعدم انكسار عزيمته، ورأى فريق ثالث أن أهم ركن في الانتصار هو إفشال مخططات العدو لفصل الضفة عن غزة وتواصل الشرخ والفُرقة، لذا فإن الوحدة الوطنية التي عُمدت بالدم هي الانتصار الاستراتيجي، وربما تكون هذه المعطيات جميعا من نتائج العدوان الهمجي على غزة .
وفي المقابل يرى الاسرائيليون – وإن لم يكن كلهم – أنهم انتصروا بتحقيق الردع، وردم الانفاق، ونكبة فلسطين وغزة بآلاف القتلى والجرحى، والمعاقين للأبد، وتدمير مقومات الحياة فيها طويلا، وما يقابله لدى الفلسطينيين الذين اعتبر بعض ناطقيهم أن بقاء المقاومة أوالفصيل (س) هو الدلالة العظمى الأكيدة على النصر.
قلت منذ البداية أن الانتصار على النفس هو الانتصار الحقيقي، وما العوامل المادية إلا تبعا لذلك، فأن نتحلى بنفس وروحية وإرادة الفوز دوما هو مما يُحمَد ويُحسب ايجابا لهذا الشعب (وهذه الأمة) الذي يحوّل كثير من مآسيه وهزائمه ومحطات فشله الى منبر تقدم ومنارة أمل في كل هذا، أكان ما حققناه انتصارا جزئيا أم كليا، تراكميا أم نهائيا، يحسب لجهة وينكر عن جهة أخرى، صغيرا أوكبيرا، فمن المؤكد لدي أن هناك انتصارات لا شك فيها، وهناك هزيمة لا شك فيها أيضا.
ومادمنا قد تحدثنا كثيرا فيما سبق عن الانتصارات، دعونا نسجل مسلسل هزائمنا في حرب غزة الأخيرة ببساطة . ألم ننهزم أمام صرخة أم جثت راكعة أمام جثة صغيرها ؟ ألم ننهزم أمام دمعة أخت تندب أخاها ؟ ألم ننهزم أمام أسرة تتجول بين خرائب بيتها لا تدري أبقي لها مستقبل أم لا! أما ترانا لم ننهزم أمام منظر الأطفال البشع الممزقين أشلاء ؟ وكيف هو الحال أمام منظر أولئك السكارى وما هم بسكارى الذين يبكون أحباءهم في المستشفيات ؟ وفي الشوارع؟ وكيف بالله عليك ترى منظر الأطفال الذين يلعبون الكرة بين الأنقاض لعلهم يظفرون بابتسامة أو مرح مفقود؟
المنتصر في هذه المناظر قطعا هم الوحوش أي الاسرائيليون القتلة، أما المهزوم فهو الانسان في كل مكان، حيث الهزيمة من هذا النوع لم تقع في غزة فقط، وإنما في كل العالم، وفي منطقتنا تحديدا، فإن دم العربي أو المسلم أوالانسان العراقي والسوري واليمني والليبي والمصري واللبناني….، هو دمنا نحن الفلسطينيين، لماذا ؟ بكل بساطة لأننا بشر، ربما نحس أكثر من غيرنا بالروح الانسانية لطول الشقاء والمأساة والنضال، نواجه أكبر آلة حرب وتدمير وقتل تناظر تلك النازية والفاشية، انها آلة الدمار الصهيونية.
بعد أن ينجلي غبار الحرب هل نستطيع -لأول مرة- وبعد أن يتوسد الشهداء الثرى وتهدأ الخواطر- أن ندعو للجنة تتبّع أو تحقيق فلسطينية-فلسطينية (سمّها ما شئت كي لا ينزعج أحد فالعبرة بالهدف) تنتقد وتبحث وتنقب وتدرس الاخفاقات والهزائم ومكامن القوة والنصر، وتضع الخلاصات وتشير في إطار العقل الاستراتيجي لما يلزمنا كشعب وكأمة أم نظل فاشلين حتى في التوحد على رأي، أوفي أقله استخلاص العبر من تجاربنا الطويلة.
كي تكون انسانا فأنت تبكي ابراهيم كما بكى الرسول عليه الصلاة والسلام موت إبنه، وكي تكون إنسانا يجب أن تقف بحقد ضد الحيوانية، وكي تكون انسانا لا بد أن تعي وتقدر وتعترف بالإخفاقات والفشل والهزائم، والتقدم بالتعلم والعمل الى الأمام، وكي تكون بشريا عليك أن تعترف بما لك وما عليك، ولا يعيبنا أن نبكي شهيدا أو نبكي وليدا أو نبكي طفلا فقد كل أحلامه بثواني … لأننا بشر ولسنا وحوش.

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *