المسيرة الخضراء آلية خاصة لتسوية نزاع الصحراء المغربية

لتأكيد عزمه على استرجاع إقليم الصحراء، ودفع إسبانيا إلى التفاوض معه قصد الانسحاب من هذه الأراضي (1)، أعلن جلالة المغفور له الحسن الثاني في خطاب موجه إلى الشعب المغربي في 16 أكتوبر 1975- عقب صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية – أنه سيقوم بواجبه كأمير للمؤمنين وخادم للأمة أمين، فيلتحق برعاياه في الصحراء مادامت بيعتهم له باقية في أعناقهم، وأنه سينظم لذلك مسيرة خضراء يسير فيها 350 ألف من سكان الأقاليم الشمالية والجنوبية ليصلوا الأرحام ويجددوا حبال الإخاء مع إخوانهم المغاربة الصحراويين.
وحدد جلالته في خطابه الخطة التي ستتبع خلال المسيرة الخضراء أو الزحف السلمي، فقال: سنذهب في مسيرتنا بدون سلاح، ولن نحارب إسبانيا لأنها لم تبق طرفا في الموضوع، مادامت قررت الخروج من الصحراء، وطلب من إسبانيا أن تسجل على المغاربة أنهم لن يحاربوها ولن يشهروا في وجهها سلاحا، لتكون مسؤولة أمام الرأي العام المغربي والرأي العام العالمي عن كل روح مغربية تزهق وكل دم مغربي يراق، في حالة ما إذا اعترض الجنود الإسبان المغاربة المسالمين السائرين إلى ذلك الجزء من وطنهم.
ولكن جلالته استدرك قائلا: إذا وجد المغرب في طريقه حاجزا غير إسباني، أو اعترضه عنصر أجنبي غير العنصر الإسباني، فإن المغرب لن يتردد في القيام بواجب الدفاع عن النفس وحفظ الكرامة والأرواح بل لن يتردد في الزحف الذي سيكون زحفا لصد العدوان (2).
وقد شكلت المسيرة الخضراء صفعة قوية لإسبانيا، التي أصبحت بحكم أوضاعها الداخلية لا تقدر على مواصلة مخططها الاستعماري بالإقليم، نتيجة احتضار رئيسها “الجنرال فرانكو” وبداية دخولها مرحلة تحول سياسي على إثر وفاته، واستعادة الأمير “خوان كارلوس” العرش الإسباني (3).
وتعتبر المسيرة الخضراء حدثا تاريخيا كبيرا، لا بالنسبة إلى المغرب وحده، وإنما بالنسبة إلى الإنسانية جمعاء. وإذا كانت بطولة الحرب وأعمالها المسلحة صعبة وشاقة فإن بطولة السلام وأعماله السلمية ليست هي الأخرى سهلة أو ناعمة، فبين النضال السياسي السلمي والنضال السياسي المسلح فاصل كبير، ولهذا يعد الانتصار بالنضال السياسي السلمـي ثمرة نفسيـة من ثمار خبرة سامية في السياسة وفي الاستراتيجية العليا، وفي جميع شؤونها القانونية والاقتصادية والإنسانية والحضارية.
ووقوع الاختيار على تنظيم المسيرة الخضراء، يعكس زيادة على ذلك، الإشعاعات الدينية والصوفية والجهادية في أعماق الإنسان المغربي الذي تطوع بروح دينية ووطنية فدائية مثالية.
إن المسيرة الخضراء حدث تاريخي من نوع استثنائي فريد، سجلته سنة 1975 لا ليكون حدثها وحدها، ولا ليكون حدث القرن العشرين، وإنما ليكون حدث كل عصور التاريخ، فعلى ضوئها يستطيع الباحث أن يجد تفسيرا لكثير من أحداث التاريخ وقضاياه في مختلف العصور التاريخية. إن المسيرة الخضراء السلمية العزلاء، كانت إذن مسيرة قوية، لأن إرادة الشعب المغربي في كل مكان من المغرب عقدت عزمها على أن تنتصر مهما كانت التضحيات والتكاليف والجهود، ومهما طالت مدة السير (4).
لقد كانت المسيرة المذكورة نقطة تحول في قضية الصحراء، وكل ما تلاها من إجراءات ومبادرات وأحداث إنما يكون نتيجة حتمية لها، فلولاها لما تنازلت إسبانيا عن موقفها العنيد الذي دافعت عنه بجميع الوسائل عشرين سنة، مؤكدة دون خجل أن الصحراء جزء من ترابها، ولأنه كيفما كان الأمر لا حق للمغرب في المطالبة بها. ولولا تلك المسيرة لما أصدر مجلس الأمن توصياته الثلاث التي أهابت بأطراف النزاع إلى اللجوء إلى المفاوضة التي تفرضها المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، ولولاها لما أرغمت إسبانيا على إبرام الاتفاق الثلاثي بمدريد الذي جعل حدا لوجود إسبانيا بالصحراء والذي اعترف صراحة بحق المغرب، ولولاها لما أمكن للجماعة الصحراوية أن تتوفر على حق تقرير مصير الإقليم، وأن تصادق على رجوعه إلى الوطن الأب.
إن المسيرة الخضراء فلسفة وأسلوب أفصح جلالة الملك الراحل الحسن الثاني – في خطابه بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء لسنة 1981- عن الدروس التي يجب أن نستخلصها منه، وهي:

– الدرس الأول والنتيجة القصوى ألا وهو التحام الشعب والتفاف كلمته حول هدف وطني.
– الدرس الثاني وهو التضحية إن اقتضى الحال بكل غال ونفيس.
– الدرس الثالث والأهم، يكمن في الاستمرارية في طلب الحق (5)

وقد عرفت قضية الصحراء المغربية، في هذه المرحلة، على المستوى الدبلوماسي تطورات هامة فاجأت جميع المراقبين، حيث أدى ضغط المسيرة الخضراء إلى إبرام اتفاقية مدريد بين المغرب و إسبانيا وموريطانيا في 14 نونبر 1975، و المصادق عليه من طرف – الكورتيس – البرلمان- الإسباني في العشرين من نفس الشهر. ويعتبر هذا الاتفاق إيجابيا إلى أعلى مستوى، حيث وضع حدا للاستعمار الإسباني للصحراء المغربية و تم سحب آخر الموظفين والجنود الإسبان في 28 فبراير 1976 لتعود الصحراء المغربية بصفة نهائية إلى الوطن الذي ترتبط به منذ قرون . وقد تم تحقيق هذا الاتفاق بدون إراقة الدماء، حيث فتح آفاقا جديدة للسلم والتعاون بين الشعوب، وجنب أي تصادم عسكري بين المغرب والجزائر، لهذا فهذا الاتفاق عمل على حفظ و تدعيم السلم والأمن في المنطقة طبقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة (6) .

المحور الأول: دور المسيرة الخضراء في إنهاء الاحتلال الإسباني

شكلت المسيرة الخضراء بحق إبداعا استثنائيا للعبقرية المغربية، من جهة لأنها جاءت متفقة مع ميثاق الأمم المتحدة الذي يلح على فض المنازعات الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر، وهذا ما جعل المغرب يتلافى أية مواجهة عسكرية مع إسبانيا، ومن جهة ثانية للطابع المحكم الذي صاحب هذا الزحف البشري (350 ألف متطوع ) في أروع مسيرة سلمية (7).
إن مغزى المسيرة الخضراء أشد عمقا من الطرق السلمية المعروفة، وأقوى دليلا على رابطة الولاء القائمة بين الملك والشعب المغربي، وصيانة لتقاليد البيعة المتجدرة في التقاليد التاريخية بالمغرب، بسلوك لا يجادل أحد في نجاعته وسلامته الموضوعية عند تخطي الحدود الوهمية من صنع الاستعمار عانى الحصار وبقي حبيسه، مما جعل المسيرة الخضراء مكسبا إيجابيا من منظور قانوني دخل حيز التطبيق بإدماج الصحراء ضمن الوطن (8).
وإذا كانت المسيرة الخضراء، قد أثارت في الرأي العام الدولي عدة تعاليق متضاربة، فإن هذا يبين مدى أهمية هذا الحدث العظيم، إن الأمر لا يتعلق بنزوة شخصية ولا بمغامرة أو قرار غير محسوب العواقب أو قرار غير مسؤول، و لا بضرب من الصدفة في الميدان السياسي الدبلوماسي، ولكنه إيمان ملك وشعب .
فالمسيرة الخضراء تستقي جوهرها وحماسها من تاريخ عريق صنع هوية المغرب العميقة ومن تاريخ المغرب المعاصر، البلد الذي عرف كيف يزاوج بين نضاله التحرري وبحثه المستمر على السلم. وباختصار، هذه المعجزة لا يمكن أن تولد وتقع وتزدهر إلا في بلد مليء بالتحديات، فالمسيرة الخضراء دخلت التاريخ وأصبحت تنتمي إلى التراث العالمي المشترك في نفس مستوى التواريخ الكبرى التي طبعت تاريخ الإنسانية (9).
إن قرار تنظيم المسيرة الخضراء (10)، خلق وضعية جديدة وغير منتظرة، هذا القرار بعثر جميع حسابات القوة المستعمرة، وفاجأها بل وأذهلها إلى حد لم تعد قادرة علــى مواجهــــة الموقف (11). فقد كــان هذا القرار الحاسم ابتكارا فريدا من نوعه في حــل المشاكل المستعصيـة بالطرق السلميــة، فالمسيــرة الخضراء التي ضمت 350 ألف من المواطنين المغاربة جسدت عزيمة المغرب واستعداده للتجند السريع لخوض معارك تحرير أراضيه المستعمرة بالطرق السلمية.
لقد جاءت فكرة المسيرة الخضراء الشعبية كأسلوب وحيد ممكن (12) لممارسة الضغط على المحتل بشكل مباشر، وقد كانت مبادرة مفاجئة أربكت كل الحسابات التي كانت تراهن على عجز مغربي مطلق، وتنتظر قيام “الدويلة الصحراوية التابعة” في الصحراء باطمئنان تام (13).
لقد كانت المسيرة الخضراء مسيرة فتح، هدفها استرجاع الحق المسلوب، وسلاحها ذلك التجاوب المثالي بين العرش والشعب وتلك الوحدة المتراصة والإيمان بالمشروعية وتعاضد الشعوب العربية والإفريقية، ومن سماتها أنها:

– مسيرة شعبية شارك فيها 350 ألف مواطن مغربي وتطوع لها مئات الآلاف الأخرى.
– مسيرة برهنت فيها المرأة المغربية على حسها الوطني ووعيها بواجباتها نحو بلادها.
– مسيرة مدعمة برأي استشاري نطقت به أعلى سلطة قضائية دولية.
– مسيرة سلمية مسالمة، حمل فيها المتطوعون المصاحف والأعلام الوطنية، لأنها مسيرة العودة إلى الوطن.
– مسيرة جاءت لتؤكد أن حب المغربي لأرضه واستعداده للتضحية في سبيل وطنه، هو نتيجة تلك العلاقة التي تربطه بملكه، وذلك التعلق القوي بالحرية والكرامة.
إن اختيار المغرب تنظيم مسيرة سلمية من أجل استرجاع حق مشروع، في وقت يسود فيه العنف والإرهاب، ليحمل في طياته أصدق معاني الإخلاص لمبادئ السلام والحرية والعدالة (14).
وقد جاءت المسيرة الخضراء لتؤكد الأداء السلمي للمملكة المغربية، وحرصها الشديد على فض نزاعاتها بالطرق السلمية وفقا لمبادئ ميثاق منظمة الأمم المتحدة وخاصة فصله السادس المتعلق بحل المنازعات حلا سلميا. وهذا ما يتجلى في التوصيات التي وجهها جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني عشية اليوم الذي سبق انطلاق المسيرة الخضراء: “شعبي العزيز، كما قلت لك في خطابي الأول، إذا ما لقيت إسبانيا، كيفما كان حال الإسباني، عسكريا أو مدنيا، فصافحه وعانقه واقتسم معه مأكلك ومشربك وأدخله مخيمك، فليس بيننا وبين الإسبان غل ولا حقد فلو أردنا أن نحارب الإسبان لما أرسلت النـــاس عزلا، بل لكنا أرسلنا جيشا باسلا، ولكننا لا نريد أن نطغى ولا أن نقتل ولا أن نسفك الدماء، بل نريد أن نسير على هدي من الله في مسيرة سلمية. ليستدرك قائلا : ‘‘.. وفيما إذا اعتدى عليك المعتدون من غير الإسبان في مسيرتك، فاعلم شعبي العزيز أن جيشك الباسل موجود لحمايتك ووقايتك ضد كل من أراد بك السوء ‘‘(15).
إن المسيرة الخضراء تأخذ دلالاتها وأهميتها ليس فقط من تنظيمها المحكم، ولا من دلالاتها السياسية العميقة، ولكن من ذلك الحماس الوطني الذي تدفق من جميع أقاليم المغرب، لقد تفجر فيها حماسها الديني الذي اختلط بالولاء المطلق للملك.
فقد ارتكزت المسيرة الخضراء على الوحدة الوطنية وعلى الحماس الإسلامي الذين بطبيعتهما يشكلان عنصرين متلاحمين، مما يجعلها لحظة تعبير جماهري وشعبي تستلهم ملحمتها من العقيدة الإسلامية، وكانت أيضا أداة ضغط على الطرف الإسباني، وأيضا وسيلة لتعزيز أواصر البيعة بين الشعب و الملك من أجل وحدة الأمة وراء قائدها (16).
لهذا نكتشف أن المرجعية الدينية للمسيرة الخضراء (17) تحيلنا على إيمان الشعب المغربي بقضيته الوطنية وتسلحه بكتاب الله لتحرير صحرائه في مسيرة سلمية وشعبية. وهكذا سارت بعض التحاليل إلى اعتبارها مسيرة معجزة،. حققت أهدافها وأحرزت على نتائجها دون سلاح ولا قطرة دم، بل هي مسيرة لأجساد تخطوا في ثبات وثقة لا حد لهما، وتتلو آيات الحق وترفع كتاب الله، ويدفعهم زفير روح المواطنة لمواجهة المحتل (18) . فيما ذهبت بعض التعاليق على اعتبارها تشكل رمزا لعبقرية رئيس دولة، إنها كذلك برهان على التحام الأمة وقائدها، كما أن هذا الحدث لم يكن ممكنا لولا الثقة المتبادلة (19).
فالمسيرة الخضراء صفحة مشرقة في تاريخ المغرب ونبراسا يهتدى به ومثلا يحتذى للمسيرات المتتالية (20)، وهي مبادرة سلمية تشكل خطوة حاسمة و إيجابية في تحرير الصحراء المغربية، حيث نتج عنها التفاوض الرسمي الذي أدى إلى توقيع اتفاقية مدريد المذكورة التي تضمنت اتفاق الأطراف على خروج المستعمر من الصحراء، فقد أدهشت عقول السياسيين وغيرت وجهة نظر المستعمر بما تجمع لها من نظام إداري و اتجاه سياسي وحماس وطني (21) .
لقد استعد الشعب المغربي، على المستوى الداخلي – بجميع مكوناته بإجماع نادرا ما تحقق– لكتابة صفحة مجيدة من تاريخ المغرب، وعلى المستوى الدولي تبلورت موجة عارمة من التضامن مع المغرب، وأخذت تتوسع في الأيام التي تلت الخطاب الملكي المعلن عن قرار تنظيم المسيرة الخضراء، وذلك لدعم مطالب المغرب المشروعة ومبادرة عاهله لاستكمال وحدة المغرب الترابية.
أما على المستوى الإفريقي، فقد ساندت السودان مشروعية قضية المغرب، كذلك الشأن بالنسبة إلى أوغندا والسنغال والغابون الذي صرح رئيسه السيد عمر بانغو Bongo بأنه في اليوم الذي سيبدأ فيه الشعب المغربي مسيرته السلمية في اتجاه الصحراء سيتم بموازاة ذلك تنظيم مسيرة أخرى عبر أرجاء العاصمة ليبروفيل Libreville. وذلك تعبيرا عن التضامن و الأخوة مع الشعب المغربي (22)، وهو نفس الموقف الذي تبنته أغلب الدول الإفريقية. وعلى العموم، إن قرار إشراك الشعب في القيام بهذه المسيرة عمل يجعل من الحدث أمرا فريدا من نوعه، وهو ما يمكن أن يفسر لنا بأنها قضية الجميع ومسؤولية الجميع، ولا يحق لمواطن مغربي أن يتخلى أو يتخلف عن هذا المبدأ، لأن تحرير الصحراء أول ضرورة تحدد وجه الوطنية شروط الإخلاص و الوفاء لمبدأ الوحدة الترابية.
وعليه فإن العمق الفلسفي لهذا الحدث الذي لم يكن ليعبر فقط عن قدرة الشعب ودوره في عمليات الوطن التاريخية، بل ليكون أيضا شهادة أمام الأجيال المتطورة في تاريخ المغرب، شهادة تنم عن البعد الذي تتصف به الرؤية الوطنية لأحد قادته الأبطال.
وهكذا تضمن القرار كل العناصر التي تضعه في مربع الاستفتاء بالشروط التاريخية، لأنه قرار وطني، ديمقراطي، إسلامي، إضافة لكونه قرار سلام يعبر عن بعد نظر .
و بذلك تكون المسيرة الخضراء، قرار ملك وشعب، تعاهدا على استكمال الوحدة الترابية للبلاد، بواسطة قرار تضمن على نحو المعجزة كل العناصر التي تصنف هذا الحدث بمعانيه الوطنية و الديمقراطية والدينية، مما يجعله بالفعل حدث الماضي و المستقبل.
ومن جهة أخرى، فقد جاءت المسيرة الخضراء بمبدأ جديد في المعاملات الدولية، ويقضي بجعل الأسرة الدولية على حد سواء من المسؤولية عن الأمن و السلم في منطقة مهمة من العالم، بحيث إن الإجراء الذي جاء به مشروع المسيرة الخضراء يقضي بإشراك الأسرة الدولية في مسؤولية اتخاذ هــذا القرار، فالمغــرب تحرك قبل الإعلان عن تشكيل المسيرة التاريخية على أكثر من مستوى سياسي و قانوني، محلي ودولي (23).
إن المسيرة الخضراء التي لقيت تقدير ودعم باقي الشعوب التي جاءت من كل جهات العالم لترافق المغاربة في هذه المسيرة الملحمية، تشكل نموذجا للتسوية السلمية للخلافات، إنها مكنت من التوصل العادل إلى تصفية كبرى لاستعمار ذي أخطار انفجار شديد في المنطقة (24) .فحسب الممثل الدائم للمغرب في الأمم المتحدة، فإن المسيرة الخضراء هي وسيلة من الوسائل السلمية التي فضل المغرب اللجوء إليها لتحقيق الاعتراف بحقه في الوحدة الوطنية و الإقليمية (25).
وقد جاء في وصف جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني للمسيرة الخضراء ما يلي:”… طوبى لكم أيها المتطوعون، لأنكم خلقتم مدرسة سياسية جديدة، ووعيا سياسيا جديدا في المغرب “(26).
لقد شكلت المسيرة الخضراء حدثا تاريخيا، جسد منهجية جديدة في الفكر التحريري الإنساني الذي استلهم الخصوصية المغربية في أبعادها الحضارية المتجذرة في الكيان المغربي . و بهذا، ستظل ملحمة المسيرة الخضراء معلمة وضاءة في تاريخ المغرب منقوشة في الذاكرة، لأنها كانت بمثابة تحد لكل العراقيل التي كانت تقف في طريق تحقيق إرادة قائد وشعب، وقد شكلت انتصارا يضاف إلى الانتصارات الدبلوماسية التي حققها المغرب على هذا الصعيد، كما شكلت أداة لاسترجاع المغرب لحقه الشرعي، و الاعتراف له بسيادته على أقاليمه الصحراوية التي تشكل جزءا من المساحة الجغرافية للمملكة ككل (27). وهذا ما جعل جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني يعتبر المسيرة الخضراء أعظم منجزاته، عندما طرح عليه مندوب جريدة ” لوفيغارو” الفرنسية في 19 أبريل 1996، السؤال التالي : منذ بداية حكمكم ما هو الشيء الذي تفتخرون به أكثر من غيره؟ “، فرد جلالته :” إنه المسيرة الخضراء التي شـارك فيها 350 ألــف شخص مما شكل أكبر جيش في العالم لم يسبق أبدا تعبئة مثله في ظرف ثلاثة أشهر، لـم يكن يحمل أي سلاح، و لم يفقد أي فرد من أفراده، بل على العكس من ذلك سجل إحدى عشرة ولادة، لأن بعض النساء أخفين عنا أنهن حاملات حرصا منهن على المشاركة في المسيرة . فهذه المسيرة مكنتنا من استرجاع ثلث ترابنا الوطني دون إراقة قطرة دم واحدة، وهذه المسيرة سلاح الناس فيها القران الكريم في اليد اليمنى و العلم في اليد اليسرى لم يبلغ حتى عدد أفراد جيوش الماغول عدد المشاركين فيها”، وعندما سأله مندوبا القناة التلفزية الفرنسية الثانية عن أسعد لحظة، أجاب جلالته :” أفضل لحظة هي بالتأكيد عندما خطرت ببالي فكرة المسيرة الخضراء” (28).
ومما تجدر الإشارة إليه، وفي قمة الأزمة وقبل أن تنطلق المسير ة بأقل من 48 ساعة، أعلنت الحكومــة المغربية أن السيد خطري ولد سعيد الجماني رئيس الجماعة الصحراوية وعضو البرلمان الإسباني، وهو من الشخصيات الكبيرة التي كانت تقود نضال الصحراويين، قد جاء إلى المغرب لكي يجدد البيعة لجلالة المغفور له الحسن الثاني الذي أعلن له عن صفحه و غفرانه لكل ما ارتكبه الخارجون عن البيعة في الصحراء ­(29).
إن قرار المسيرة الخضراء كان يعبر عن فكرة تتميز بالأصالة والمفاجأة و السلامية، مما أدى إلى ترجيح كفة التوازنات داخل مجلس الأمن لصالح الموقف المغربي، إذ لم يبادر المجلس في أي من قراراته إلى إدانة العملية رغم رفض المغرب الاستجابة لنداء رئيس مجلس الأمن بإيقافها، كما أن قرارات مجلس الأمن كانت تركز على دعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفس و التعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة (30). وطبقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة المادة 33 منه التي تدعوا أطراف أي نزاع إلى التسوية عن طريق عدة وسائل سلمية يما فيها المفاوضات، أمر المغرب بإيقاف زحف المسيرة الخضراء لفتح المجال للمفاوضات التي جرت في مدريد بين المغرب و إسبانيا بحضور وفد عن موريطانيا، و التي انتهت بتوقيع اتفاقية مدريد الثلاثية التي نصت على فترة انتقالية، تتميز بقيام إدارة ثلاثية لمدة ثلاثة أشهر، يليها تسليم السلطات مع احترام رأي السكان الصحراويين المعبر عنه من طرف الجماعة .

المحور الثاني: الأبعاد الدبلوماسية للمسيرة الخضراء واتفاقية مدريد

مع انطلاق المسيرة الخضراء، اصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 380 في 6 نونبر 1975، والذي أشار فيه إلى مسألة التفاوض بين الأطراف المعنية بقضية الصحراء طبقا للمادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة في الفصل السادس المتعلق بحل النزاعات الدولية حلا سلميا. وهكذا أعاد هذا القرار ملف الصحراء إلى أجواء سنة 1965 عندما كان المغرب يطالب بأرضه، وأوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة آنذاك كلا من إسبانيا و المغرب باللجوء إلى المفاوضات لتصفية الاستعمار في المنطقة.
وبعد اتصالات مكثفة بين مدريد و الرباط، قبلت إسبانيا في نهاية المطاف الرجوع إلى نقطة البداية لتدارك ما أفسدته الأجواء السياسية، بالدخول في مفاوضات طالما طالب بها المغرب كأسلوب تتبناه منذ البداية للمطالبة بالاستقلال و استكمال السيادة على أقاليمه المستعمرة، مما يلازم ما دعت إليه الأمم المتحدة من تفاوض عند بداية النزاع، وقبول موريطانيا أيضا التفاوض (31)، مما أدى إلى تطور الأحداث بالمنطقة التي شملت تحركات ديبلوماسية مكثفة بين إسبانيا و المغرب وموريطانيا.
إلا أن تأثير انطلاق المسيرة الخضراء وتوغل المشاركين داخل الصحراء بمسافة 15 كيلومتر، أدى في نهاية المطاف إلى إعادة التوازن في الموقف الإسباني لصالح المغرب، فبتاريخ 8 نونبر 1975 قام الوزير الإسباني المكلف بالصحراء “انطونيو كارو ماتينيز” بالتوجه إلى أكادير، حيث التقى بالملك وأجرى مباحثات مع الوزير الأول ووزير الخارجية المغربي، وتم الاتفاق على العودة من جديد إلى طاولة المفاوضات، التي كانت قد انطلقت بعد الإعلان عن تنظيم المسيرة الخضراء ودعوة الأمم المتحدة لأطراف النزاع إلى اللجوء للتفاوض.
وحتى يتمكن المسلسل التفاوضي من تحقيق أهدافه على أساس التوازن، ودون أية وسيلة ضغط، طلب جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني من المشاركين في المسيرة الرجوع إلى مدينة طرفاية، حيث جاء في الخطاب الذي ألقاه بتاريخ 9 نونبر 1975: “… فلنرجع إذن إلى منطلقنا، حتى يمكننا أن نبني تلك العلاقات، علاقات الاحترام المتبادل و الكرامة المصونة و بين إسبانيا …نريد أن نبنيها انطلاقا من أساس مهم جدا، وهو أنه ليس هناك غالب ولا مغلوب”.
إن عودة الإسبان إلى متابعة المفاوضات مع المغرب كان مشروطا بعدم الخضوع لضغط الوجود المغربي المتمثل في المسيرة الخضراء . وهكذا، فإن الرجوع إلى طرفاية ظل ذا صبغة مؤقتة، أي في انتظار التوصل إلى حل سلمي، على أن يعود المشاركون إلى الانطلاق في حالة فشل المفاوضات.
وبتاريخ 11 نونبر من نفس السنة، توجه إلى إسبانيا وفد مغربي برئاسة الوزير الأول أحمد عصمان، ثم التحق به فيما بعد وفد موريطاني برئاسة وزير الخارجية حمدي ولد مكناس (32) وجرت بين المفاوضين مذاكرات استمرت ثلاثة أيام استقبلهم في نهايتها يوم 14 نونبر 1975 الأمير خوان كارلوس (ولي العهد آنذاك)، وبعدما اطلع على نتائج أعمالهم ووافق عليها صدر بلاغ مشترك يعلن عن وصول المفاوضات بين الدول الثلاث إلى نتائج مرضية تستجيب لرغبتها الأكيدة في التفاهم من أجل الاسهام في حفظ السلام والأمن الدوليين (33). وبذلك تم إبرام اتفاقية مدريد الثلاثية في 14نونبر 1975(34) التي نصت علـى إحداث إدارة انتقالية ثلاثية تشرف على تسيير الإقليم إلى حين الانسحاب الإسباني النهائي منه في 28 نونبر 1976، كما نص الاتفاق على إجراء استشارة السكان بشأن مضمون هذا الاتفاق عن طريق “الجماعة ” التي تمثلهم.
وقد تم إبرام اتفاقية مدريد طبقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وخاصة المادة 33 منه، التي تحث على اللجوء إلى المفاوضة كأول وسيلة من الوسائل السلمية لتسوية المنازعات الدولية (35) .
إن مقتضيات اتفاقية مدريد(36) صريحة فيما يتعلق بوضع حد نهائي لقضية تصفية الاستعمار الإسباني من الصحراء، إن هذا الجانب يكتسي صبغة قانونية لأنه يقع كاستمرارية لقرارات الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية المختصة باعتباره نزاعا قانونيا ثنائيا مغربيا- إسبانيا، وكان استجابة لقرارات مجلس الأمن الدولي التي كانت تدعو الأطراف إلى اللجوء للمفاوضات طبقا للمادة الثالثة والثلاثين من ميثاق الأمم المتحدة (36).
وقد جاء في المادة الأولى من الاتفاقية أن إسبانيا تؤكد من جديد قرارها، الذي أعلنته مرارا في الأمم المتحدة، بتصفية الاستعمار في إقليم الصحراء الغربية، وذلك بوضع حد للمسؤوليات والسلطات التي تتولاها في هذا الإقليم بوصفها الدولة المتصرفة القائمة بالإدارة. وجاء في المادة الثانية أن الوجود الإسباني سينتهي نهائيا قبل 28 فبراير 1976.
إن مشروعية اتفاقية مدريد تبدو على مستوى التحديد المجرد لصيغة”الطرف المعني” بالمفاوضات، ومن هذه الناحية تعتر اتفاقية مدريد استمرارية لقرارات منظمة الأمم المتحدة، هذه القرارات التي لم تكن إلا إفرازا للنزاع الثنائي المغربي الإسباني المتعلق بتسوية قضية السيادة على الصحراء الغربية وإيفني حتى سنة 1969 (37).
إن اتفاقية مدريد كانت صريحة في هذا الجانب بما فيها اعتراف إسبانيا قانونيا بالمغرب “كطرف معني”، إن هذا الاعتراف القانوني يشكل رجوعا إلى الحل الموضوعي وتنازلا من طرف إسبانيا عن الاستراتيجية الاستعمارية التي شكلتها على صعيد الأمم المتحدة.
ورجوعا إلى قرارات الأمم المتحدة نجد أن الطرفين المعنيين بنزاع تصفية الاستعمار هما: المغرب وإسبانيا. لكن ما هو الوضع القانوني لموريطانيا في اتفاقية مدريد؟.
لقد جاء في المادة الثانية من الاتفاقية: “أخذا بالاعتبار هذا القرار (أي نزاع تصفية الاستعمار من الصحراء) وطبقا للمفاوضات التي دعت إليها الأمم المتحدة بين الأطراف المعنية، فإن إسبانيا تقوم مباشرة بإنشاء إدارة انتقالية، في الإقليم بمشاركة المغرب وموريطانيا… ” .
نستخلص من هذا النص أن الاتفاقية تعطي لموريطانيا صفة “طرف معني” في نزاع تصفيـة الاستعمار، إلا أننا لا ننكر الجانب السياسي في الاتفاقية إذا ما حللنا الوضع الخاص لموريطانيا في نزاع الصحراء منذ حصولها على الاستقلال سنة 1960. ويتجلى هذا الجانب في ظرفية التفاوض وتوقيع الاتفاقية، وطبقا للمادة الخامسة من تلك الاتفاقية التي جاء فيها أن “الأطراف” الثلاثة المتعاقدة قد توصلت إلى هذه الاتفاقية” … كمساهمة من جانبها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين…”. إن هذه المادة تبرز الجانب المتعلق بتوازن القوى في بنود الاتفاقية، بعبارة أخرى إذا كانت اتفاقية مدريد قد سوت النزاع القانوني المغربي. الإسباني، وهي في الحقيقة لم تكن إلا تسوية جزئية، فإنها وبصورة متوازيــــة قـــد ســــوت نزاعا سياسيا مغربيا- موريطانيا وخلقت توافقا ثنائيا ذا طبيعة سياسية يتعلق بتخطيط الحــدود المغربية الموريطانية (38).
ولقد تم التوصل إلى هذا التوافق على حساب الوحدة الترابية للمغرب على القسم الجنوبي من الصحراء (إقليم وادي الذهب). إن التحليل الموضوعي لقضية الصحراء لا يتجاوز إعطاء موريطانيا صفة “طرف مهتم”، وتجاوز هذه الصفة هو دخول إلى الجانب السياسي في تحليل النزاع.
وبنفس القدر، فإن الوضع القانوني للجزائر في قضية الصحراء لا يمكن أن يتجاوز صفة “الطرف المهتم”، على اعتبار أنها لم تشارك في المفاوضات وبالتالي لم توقع اتفاقية مدريد، إن الظرفية السياسية في إبرام الاتفاقية كان من الممكن أن تخلق توافقا ثنائيا مغربيا جزائريا على غرار التوافق المغربي الموريطاني (39) لولا معارضة الجزائر، التي خلقت بذل هذا التوافق نزاعا ثنائيا سياسيا مغربيا جزائريا، أصبحت فيه الجزائر “طرفا معنيا” بعد مرحلة تصفية الاستعمار الإسباني من الصحراء المغربية.
ومن ناحية أخرى، فإن اتفاقية مدريد بوضعها حدا للاستعمار الإسباني، حددت مباشرة النظام القانوني لإقليم الصحراء المغربية، وكانت من هذه الناحية أيضا استمرارية لقرارات الأمم المتحدة التي كانت تدعو إسبانيا دائما إلى إجراء مفاوضات تتعلق بتسوية مشكلة السيادة على الإقليم، فالأصل في نزاع الصحراء المغربية هو ثنائية النزاع المغربي الإسباني، وتسوية النزاع تمر عبر قيام مفوضات مغربية إسبانية تنتهي بدورها إلى تسوية مشكلة السيادة، وتفسير ذلك تعدد الوسائل التي يمكن بواسطتها تحويل السلطات، إن هذا التحويل يتراوح بين تطبيق استفتاء لتقرير المصير في حالة حصول اتفاق بين الطرفين المعنيين بالنزاع، ومجرد التحويل المباشر دون اللجوء إلى تقنيات تقرير المصير كما تم في تسوية قضية مدينة إيفني، ومع ذلك فإننا لا ننكر الجانب السياسي لمبدأ تقرير المصير في النزاع المغربي الإسباني وفي الحالة الخاصة بإقليم الصحراء المغربية (40).
ومن النقط الرئيسية التي جاءت بها اتفاقية مدريد هي احترام رأي سكان الصحراء المعبر عنه من خلال الجماعة (الفصل الثالث من الاتفاقية)، وهو ما يدفعنا إلى بحث خلفيات ودلالات هذه الاستشارة.
لكن علينا ألا ننسى أن إسبانيا كان لها أعضاء موالون في “الجماعة”، منهم من كان يعمل لصالح إسبانيا، كما أن لإسبانيا مواقف دولية خاصة، فيبقى الحل الوحيد لإنقاذ “دم وجه إسبانيا” سواء لدى الجماعة أو لدى الرأي العام الدولي هو أن ينص في الاتفاقية الثلاثية على احترام رأي الجماعة. ومن جهة أخرى، فإن المغرب هو الآخر قد وجد في احترام رأي الجماعة متنفسا له لدى أهل الصحراء نظرا لوجود موريطانيا في المفاوضات (41).
والجدير بالذكر أن البرلمان الإسباني وافق في 19 نونبر 1975 على اتفاقية مدريد وعلى المرسوم الملكي الذي أذن للحكومة الإسبانية بالتخلي عن إقليم الصحراء. ويضم هذا المرسوم فقرة ذات أهمية بالنسبة إلى الحق الذي كان يطالب به المغرب منذ عشرين سنة، فجاء فيه أن: “الصحراء لم تكن في يوم من الأيام تشكل جزء من التراب الوطني للمملكة الإسبانية”، فكان ذلك اعترافا واضحا من طرف الحكومة الإسبانية بأن ما كانت تدعيه من قبل ما هو إلا مجرد افتراء وتضليل، كما أصبح واضحا بأن المغرب كان على حق عندما طالب باسترجاع أراضيه الصحراوية (42) . ومما يجب التأكيد عليه أيضا أن اتفاقية مدريد أخذت بعين الاعتبار تقرير المصير للشعب الصحراوي، وذلك من خلال بيعة الجماعة، تلك الجماعة التي كانت آنذاك هي البرلمان المقرر لشؤون الصحراء بالنسبة إلى المستعمر (43). ومما جاء في البرقية التي رفعها إلى جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني رئيس الجماعة الصحراوية، أن هذه الأخيرة إذ تعبر عن ارتياحها وتأييدها المطلق لعودة الأمور إلى مجراها الطبيعي والتاريخي ورجوع الأرض إلى أهلها وذويها، تعبر في الحقيقة عن رأي جميع الفئات الصحراوية وكافة القبائل التي هي الممثلة الحقيقية والشرعية لها، ومما لا شك فيه أن الشكل الذي تمت به تصفية الاستعمار بهذا الإقليم يستجيب لمطامح ورغبة السكان مساهمة فعالة لاستتباب الأمن في المنطقة (44). وتنفيذا للفصل الثالث من اتفاقية مدريد عقدت الجماعة الصحراوية بتاريخ 26 فبراير 1976 بالعيون جلسة استثنائية صادقت فيها بإجماع الأعضاء الحاضرين على تصفية الاستعمار بالصحراء المغربية وعودته إلى الوطن اعتبارا للواقع التاريخي وأواصر البيعة.
وهذا ما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يعتبر أن تقرير المصير بالصحراء. بالنسبة إلى المغرب، قد تم انطلاقا من الوقت الذي جاءت فيه الجماعة الصحراوية لتقدم مراسيم البيعة، وهذه الجماعة الصحراوية نفسها هي التي كانت أساسا قد وضعت بين يديها سيادة وتمثيل الصحراء لأنها هي التي كانت ستحول إليها السيادة والسلطات (45).
وهكذا، فاتفاقية مدريد مكنت من وضع حد لوضعية معينة وفتحت الطريق لوضعية أخرى تعني بالنسبة إلى المغرب الانتقال من موقف المطالبة بالصحراء المغربية إلى موقف الدفاع عنها (46)، حيث إن هذه الاتفاقية أدت إلى خلق وضع جديد على مستوى النقاش داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ذلك أن هذه الأخيرة اعتادت أن تناقش ملف الصحراء في إطار المواجهة التقليدية بين قوى التحرر في العالم الثالث والإمبراطوريات الاستعمارية، أما في ظل الوضع الجديد فقد فتح المجال لمواجهة جديدة بين المغرب وموريطانيـا من جهة، واللذين يعتبران أن اتفاقية مدريد مطابقة لأحكام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والجزائر من جهة أخرى التي كانت تعارض هذا الاتجاه وتلح على ضرورة تطبيق مسطرة تقرير المصير للصحراويين، وأصبحت تعتبر نفسها طرفا معنيا على الصعيد الجيوسياسي، على اعتبار أن لها حدودا مع الإقليم، وأن استرجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية سيؤدي إلى اختلال توازن القوى في منطقة شمال غرب إفريقيا، موقفها هذا دفعها إلى المساهمة في تأسيس ودعم ما يسمى بجبهة البوليساريو الانفصالية (47) . لمعارضة استرجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية التي ثبتت مغربيتها بحجج تقوم أولا على الواقع الجغرافي والتاريخي والسلالي، كما تقوم على المعاهدات كلها. بما في ذلك معاهدة الجزيرة الخضراء المبرمة سنة 1906 والبيان المغربية الفرنسي المشترك والبيان المغربي الإسباني المشترك الموقعان سنة 1956. تعترف كلها بسيادة السلطان ووحدة المغرب وتمام أراضيه الوطنية.
وتقوم حجج المغرب أيضا على العديد من الوثائق والمستندات القانونية والسياسية والإدارية من ظهائر التعيين ومراسلات ملكية ورسوم شرعية، ورحلات سلاطين المغرب للقبائل الجنوبية الصحراوية، بالإضافة إلى مواجهة السكان المحليين باسم السلطان للغزو الأجنبي ومقاومة الشيخ ماء العينين للمستعمر بأمر من السلطان وتنسيق معه.

الهوامـش

(1) الحسان بوقنطار، السياسة العربية للمملكة المغربية، باريس، مركز الدراسات العربية الأوربية، 1997، الطبعة الأولى، ص 132.
(2) انظر عبد الوهاب بن منصور، ملف الصحراء المغربية الغربية…، م. س، ص 37.
(3) انظر الطاهر النوفلالي، الصحراء المغربية بين مشروعية الاندماج ومشروع الانفصال، م. س، ص 28.
(4) راجــع محمد حمــادي العزيز، “… وانتصرت إرادة السلام…”، مجلة الفنون، عدد خاص عن المسيرة الخضراء، م.س، ص 139.
(5) راجع أحمد مجيد بن جلون، “الحسن الثاني مبدع المسيرة الخضراء ومحرر الصحراء”، وارد في: جلالة الملك الحسن الثاني ملك المملكة المغربية، الإنسان والملك، م.س، ص 276.
(6) Cf. Ali Yata، le Sahara occidental marocain à travers les textes، T1 : de la revendication à la concrétisation 1973-1975، Casablanca، Ed Albayane، 1982، P 369.
(7) راجع جريدة الصحيفة، العدد 853، بتاريخ 14 أكتوبر 1999.
وللإطلاع على كيف استوحى جلالة الملك الراحل فكرة تنظيم المسيرة الخضراء والتحضير لها في سرية تامة، راجع تصريحات جلالته في : الحسن الثاني، ذاكرة ملك، الشركة السعودية للأبحاث والنشر، (بدون ذكر مكان النشر)، 1993 الطبعة الثانية، ص 113-119.
(8) بلقاسم كريمني، السيادة المغربية من خلال التسويات السلمية في القانون الدولي، م س، ص 156.
(9) V. Hassan II présente la marche verte، Ouvrage collectif dirigé par : Daniel Bardonnet، Driss Bassri et autres، Paris، Plon، 1990، p11.
(10) حيث جاء في هذا الخطاب الملكي : ‘‘.. بقي لنا أن نتوجه إلى أرضنا – الصحراء فتحت لنا أبوابها قانونيا – اعترف لنا العالم بأسره بأن الصحراء كانت لنا منذ قدم الزمن.. فواجبي الديني كخادم البلاد و خادم هذه الأمة و كأمير المؤمنين، وبما أن بيعتهم لي باقية في عنقهم. أنني أقوم بواجبي وألتحق بشعبي في الصحراء … لم يبق شعبي العزيز إلا شيء واحد، إننا علينا أن نقوم بمسيرة خضراء من شمال المغرب إلى جنوبه و من شرق المغرب إلى غربه، علينا، شعبي العزيز، أن نقوم كرجل واحد بنظام وانتظام لنلتحق بالصحراء لنحيي الرحم مع إخواننا في الصحراء . وكيف ستكون المسيرة؟ سيشارك في المسيرة 350 ألف من السكان … هذه عملية، شعبي العزيز، لا تقوم بها إلا دولة عريقة في المجد وفي النظام، مسيرة مضمون حسابها حتى من الوقيد و الشمع، مسيرة مضمون حسابها حتى من الرصاص و الدفاع عن النفس في حالة ما إذا واجهنا غير الأسبانيين، فإذا وجدنا غير الإسبانين فإن المغرب لن يعترف لا بالسلم ولا بالمسالمة، بل أصبح في حالة استثنائية …‘‘
و انظر أيضا :
Abdelmajid Smaili، Sahara marocain: de la libération à la réunification، op. cit، p18.
(11) محمد زنيبر، ‘‘ لمحة عن مقاومة الصحراء المغربية لتوغل الاستعمارين الفرنسي والإسباني”، وارد في: المقاومة المغربية ضد الاستعمار، 1904-1955، أعمال ندوة أكاد ير، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1977، ص64.
(12) نظرا لعدم القدرة على خوض المعركة عسكريا للاختلال الكبير الحاصل في ميزان القوى، بالإضافة إلى تشبت المغرب بنهجه السلمي لحل خلافاته الدولية .
(13) علال الأزهر، الصحراء المغربية : الوحدة و التجزئة في المغرب العربي، المحمدية، دار الخطابي للنشر، دجنبر 1988، الطبعة الأولى، ص123.
(14) أنظر، المغرب الجديد: المغرب في عشرين سنة من الاستقلال. مسيرة التحرير والتنمية، ( بدون ذكر اسم المؤلف )، الرباط، طبع ونشر وزارة الدولة المكلفة بالإعلام، نونبر 1975، ص 181.
(15) انظر الحسن الثاني ملك المغرب، التحدي، م س، ص 277.
(16)Maurice Barbier، « Essai d’interprétation du conflit saharien، in : Enjeux sahariens (table ronde du CRESM، NOV 1981)، Paris، CNRS، 1984، p215.
(17) René – Jean Dupuy، « la marche verte »، Revue Géopolitique، N° 57، 1997، pp 12-14.
(18) انظر فوزية أورخيص، المسيرة المعجزة، الصحراء المغربية، العدد 3579، 7نونبر 1998.
Voir aussi : Mohamed Boughdadi، le passé et le présent marocain du Sahara، Casablanca، Editions Maroc-soir، 1998، p 299.
(19) Cf. Othman Bouabid ; « les prolongements diplomatiques de la marche verte »، in : Hassan II présente la marche verte، Op. cit، p281.
(20) مقتطف من برقية ولاء وتهنئة وتبريك بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء إلى جلالة الملك الراحل من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سيدي محمد (صاحب الجلالة الملك محمد السادس حاليا)، جريدة الصحراء المغربية، العدد 7،3579 نونبر 1998 .
(21) الرحالي الفاروق، ٌ تحية للعرش الذي ابتدع المسيرة الخضراء وانتزع الحواجز وفتح أبواب الصحراء ً، وارد في : الحركة العلمية بمراكش ابتداء من الثلاثينات، أعمال الندوة المنظمة بتاريخ 14-16 نونبر 1991، مراكش، مؤسسة أسمار، 1992، ص 266.
(22) Cf. Abdelmajid Samili، Sahara marocain ; de la libération à la réunification، op. cit. p 29.
(23) راجــع عبد الهادي مزراري، الصحراء المغربية قرار الملك و الشعب، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1997، ص 68-69.
(24)Hassan II présente la marche verte، op.cit، p14.
(25) انظر الحسن الثاني ملك المغرب، التحدي،م.س، ص283.
(26) راجع ابتسام قينران، اتفاق هيوستن ومسار مسلسل الاستفتاء في الصحراء المغربية، م .س، ص32 .
(27) انظر محمد الأمين موسى، الحسن الثاني … دراسة في العبقرية، سلا، مطابع أمبيريال، غشت 1999، الطبعــــة الأولى، ص 121 .
(28) للاطلاع على النص الكامل للبيعة التي رفعها خطري ولد سعيد الجماني إلى جلالة المغفور له الحسن الثاني في 2 نونبر 1975، انظر، محمد أحمد باهي، الليث سيدي أحمد الركيبي، الرباط، مطابع أمبريال، 1999 الطبعة الثانية، 188-189.
(29) محمد تاج الدين الحسيني، وسائل حفظ السلام في العلاقات الدولية المعاصرة…، م. س، ص28.
(30) انظر بلقاسم كرمني، السيادة المغربية من خلال التسويات السلمية في القانون الدولي، م.س، ص 157 .
(31) راجع لميني سعيدة، سياسة الحسن الثاني الدولية من خلال مؤلف ذاكرة ملك، م.س، ص 66
(32) راجع عبد الوهاب بن منصور، ملف الصحراء المغربية … م.س ص 48.
(33) للإطلاع على ظروف إبرام اتفاقية مدريد، راجع :
– Hassan II، le défi، Ed. Albin Michel، 1976، pp 175-188.
– Nicole Kasbaoui، les relations internationales magrhrebines et le conflit du Sahara occidental، Op.cit، pp 103-110.
(34) Cf. Mohamed LAMOURI، le contentieux relatif aux frontières terrestres du Maroc، (S.L) (S.M)، 1979، p 177.
(35) للاطلاع على النص الكامل لاتفاقية مدريد، انظر الملاحق .
(36) انظر عبد السلام سفيري، الملف الدبلوماسي لنزاع الصحراء في إطار منظمة الوحدة الإفريقية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق بالرباط، يونيو 1981، ص 102.
(37) نفس المرجع، ص 101.
(38) نفس المرجع، ص 102.
(39) الذي تمثل أساسا في إبرام اتفاقيتين بتاريخ 16 أبريل 1976، الأولى تتعلق بتخطيط الحدود بين الدولتين، والثانية تتعلق بتعاونهما، بشأن استغلال الأراضي الصحراوية المسترجعة، أنظر النص الكامل للاتفاقيتين، الحسن الثاني ملك المغرب، انبعاث أمة، الجزء الحادي والعشرون، الرباط، مطبوعات القصر الملكي، 1976، ص ص 44-51.
(40) عبد السلام السفيري، الملف الدبلوماسي لنزاع الصحراء… م.س ص 103.
(41) انظر عبد الحق السعداني، أما حان الوقت للديبلوماسية المغربية أن تجعل حدا لجنايتها على مستقبل وحدة المغرب الترابية ؟، الرباط، مطبعة السلام، غشت 1980، ص 5.
(42) محمد ابن عزوز حكيم، السيادة المغربية في الأقاليم الصحراوية من خلال الوثائق المخزنية، م.س، ص 21.
(43) راجع نص الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت 1991، وارد في: الحسن الثاني ملك المغرب، انبعاث أمة، الجزء السادس والثلاثون، الرباط، مطبوعات القصر الملكي، 1991، صص 310-317.
(44) انبعاث أمة، الجزء الحادي والعشرون، م.س، ص 18.
(45) انظر جواب جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني عن سؤال يتعلق بتقرير المصير بالصحراء في حديثه الصحفي الذي أدلى به في الرباط لممثلي نادي الصحافة بباريس ليلة رحلته إلى فرنسا للقيام بزيارة رسمية، انبعاث أمة، الجزء الحادي والعشرون، م.س، ص 143.
(46) Cf. Abdelhaq Cheikh، la politique étrangère des partis politiques marocains : Ca du PPS، de l’Istiqlal et de l’USFP، DES en droit public université Mohamed V، Rabat، 1987، P 35.
(47) voir la proclamation de Guelta signée le 28 novembre 1975 : Elsa Assidon، Sahara occidental : un enjeu pour le nord-ouest
africain، Paris librairie François Maspero، 1987، pp 155-156.

*باحث جامعي/ جامعة الحسن الثاني كلية العلوم القانونية و الاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء

اقرأ أيضا

اتحاد كتاب المغرب

اتحاد كتاب المغرب يتضامن مع الروائي عزيز بنحدوش

عقب صدور حكم قضائي في حق الكاتب عزيز بنحدوش، بالحبس شهرين موقوفي التنفيذ، بمناسبة صدور روايته " جزيرة الذكور"، أصدر اتحاد كتاب المغرب بيانا للتضامن معه.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *