الرئيسية / سياسة / “فرانسوا فيون” يدعو إلى مراجعة تاريخ فرنسا وتقييم آخر لعهود الملكية؟
فرنسا

“فرانسوا فيون” يدعو إلى مراجعة تاريخ فرنسا وتقييم آخر لعهود الملكية؟

أنهت فرنسا ، أمس الأحد، ما يمكن اعتباره مناورات انتخابية بالذخيرة الحية، للتدرب على معركة الانتخابات الرئاسية في شهر مايو المقبل.

ولم تختلف ليلة إعلان النتائج بين المتنافسين  “فرانسوا فيون” و”ألان جوبي”إلا في القليل من التفاصيل عن  سابقاتها  التي طبعت الاستحقاقات الرئاسية المتوالية؛ لكن الجديد حقا في هذا التمرين الديمقراطي الذي دشنه ودعا إليه أصلا الحزب الاشتراكي؛ هو التطور الملموس في المواكبة الإعلامية للمرشحين السبعة، بدءا من  الجولة الأولى من الاستحقاق التمهيدي ليبلغ ذروته  في الجولة الأخيرة والحاسمة التي رجحت فوز الوزير الأول الأسبق،فرنسوا فيون، ضد السيئ الحظ في السياسة الفرنسية  “ألان جوبي” عمدة مدينة بوردو الحالي.

لقد تنافست واجتهدت تلك الوسائل وأظهرت براعة وأساليب مبتكرة  في التغطية والمواكبة وخاصة القنوات التلفزيونية ومحطات الراديو،واستطاعت وضع  ناخب اليمين والوسط الفرنسي في تمام  الصورة، وربما سهلت الاختيار على شريحة مهمة من الكتلة المقترعة  التي منحت صوتها لأحد المرشحين.

ولم يكن  فوز “فيون”  ليشكل  مفاجأة  في الجولة النهائية،خاصة وبعد اقتحامه المشهد بأكثر من 40 في المائة من الأصوات في المواجهة الأولى، منافسا لستة مرشحين من عيار ثقيل، بينهم رئيس سابق للجمهورية ورئيس حكومة  وثلاثة وزراء؛ يعتبر الحدث الأبرز في تاريخ استحقاقات رئاسة الجمهورية الفرنسية الخامسة  التي أرسى أسسها الدستورية الجنرال شارل ديغول؛ ما جعل المحللين الفرنسيين يضربون أخماسا في أسداس، يبحثون  في شتى الاتجاهات عن السر والمبرر المنطقي، لتفسير لغز انتصار “فيون” الذي بدأ حملته هادئا متواضعا مرتبا في ذيل قائمة المتنافسين السبعة حسب استطلاعات رأي  اعتبرته مجرد أرنب سباق، يؤجج الصراع الحقيقي بين الرئيس السابق نيكولا ساركوزي  ورئيس الحكومة الأسبق “الأن  جوبي” الوافر الحظ من وجهة نظرها.

وبالنسبة لطائفة من المحللين، فإن انتصار”فيون” يمكن إرجاعه جزئيا إلى ما هو حاصل في الضفة اليسارية من تشرذم وصراعات شخصية وإعلانات  متتالية  عن النية في خوض غمار الرئاسة، غير مبالين بحسابات الربح  والخسارة.

لقد أظهر الاقتراع   الذي شارك فيه أكثر من أربعة ملايين  ناخب في كل جولة، أن المجتمعات بما فيها  المتقدمة، تحتاج في ظرف الأزمة وانعدام اليقين في السياسات والإيديولوجيات، إلى منقذ ومخلص، يقود خطواتها نحو الطريق الأمن. والحقيقة أن “فيون” نجح إلى حد كبير  في تقمص دور “الكاهن” الذي لم يكن غريبا عليه بالنظر لخلفيته الدينية وممارسته للشعائر الكنسية.

صحيح أن الفرنسيين واعون، بما يصلح لهم من اختيارات، يميزون بين المدارس الفكرية والاتجاهات السياسية، متشبثون بما يسمونه قيم الجمهورية المشتقة من مبادئ الثورة الفرنسية ومن الأسس المرجعية للعلمانية، لكنهم  بدوا  أنهم  يفتقدون،  في ظل حكم  الرئيس فرانسوا هولاند، الاستقرار السياسي والاجتماعي، ليس بسبب الأزمة الاقتصادية  وحدها  وإنما أيضا من جراء عوامل خارجية، نغصت حياتهم وغيرت أمزجتهم  ورفعت من أسهم اليمين المتطرف وأيقظت مشاعر الكراهية للأجانب، والمقصود  هنا الضربات الإرهابية الموجعة التي قضت مضاجعهم في المدة الأخيرة فظهرت عليهم علامات القنوط والبحث عن أي زعيم يعيد إليهم الطمأنينة  ويستحضر معهم الجذور العميقة المميزة لهم  عن سواهم من الأمم.

ومن الواضح أن “فيون” أعمل فكره وتأمل  بعمق في الماضي والحاضر لينتهي   إلى ما اسماه “الطريق” التي أقنعت  فرنسيي اليمين والوسط، بالسير فيها، لتحذو حذوهم في مايو 2017 باقي الشرائح الاجتماعية.

ويحفل خطاب “فيون” بإشارات روحانية  وأفكار، لا تتناقض مع الخطاب السياسي لليمين الليبرالي، نجد مثيلا لها  في خطاب المرشح الخاسر “ألان جوبي”  الذي اعتمد أسلوبا معتدلا يميل إلى التدرج في الإصلاحات والانفتاح على القوى المجتمعية الأخرى وعدم الاصطدام بالنقابات ، وكذا  المرونة في معالجة ملف المهاجرين واللاجئين.

الخطورة في نهج “فيون” أ تكمن في أنه  مؤمن قولا وفعلا بنهجه الشديد المحافظة. دشنه  بالدعوة  إلى إعادة  كتابة والنظر في التاريخ الفرنسي الحديث الذي يرى “فيون” أنه لا يبتدئ مع قيام الثورة الفرنسية وإنما يمتد بعيدا في الماضي،  لا يستثني العهود الملكية التي خلفت حضارة وصفحات ناصعة في كثير من الميادين.

ولا احد يستطيع الجزم بإطلاق،  بأن برنامج  “فيون” الذي يشبه في شقه  الاقتصادي بما طبقته في بريطانيا في عقد الثمانينات “مارغريت تاتشر” سيخرج فرنسا من  الانكماش الاقتصادي  لكن المؤكد أن  الوصفات الاشتراكية، رغم كل الاجتهادات، باتت عاجزة عن إرضاء أتباع اليمين واليسار على السواء ؛ لذلك سيجد “فيون” نفسه مجبرا خلال الأشهر المقبلة على تدقيق برنامجه والجنوح به إلى  شبه الأرضية المعتدلة  التي تحرك فوقها  “جوبي”  وإلا فإنه سيفتح عليه أبواب جهنم  قبل حلول موعد الرئاسيات،بل يمكن أن يتحد ضده اليمين  المتطرف واليسار بأطيافه والنقابات والوسط المعتدل  والمثقفين الخائفين على العلمانية من انزلاق نحو الأفكار المحافظة.

فإن اتحدت تلك القوى جميعها ضد “فيون” فإنه لن يضمن الفوز بالرئاسة أولا، وإن  حدث  العكس والمستحيل، نتيجة خذلان  وانقسام  المعسكر اليساري  الذي يعاديه، فمن المرجح أن تواجه فرنسا هزات اجتماعية قوية، خاصة وأن “فيون” رئيسا، لا يمكنه  في السنوات الأولى لولايته المحتملة ،تحقيق وعوده  الاقتصادية في الاتجاه الذي تطمح إليه الغالبية العظمى من الفرنسيين  الدين اعتادوا  على كرم الدولة وسخائها

في هذا السياق، لا يخلو معسكر اليمين المعتدل والوسط من أصوات تجهر  بانتقادات محذرة من النهج الفكري والسياسي للمرشح “فيون”  لا يمكنه  تجاهلها، وبالتالي فسيكون مضطرا إلى اللجوء إلى  الأصوات الأخرى حتى تسلم الجرة ؛ فليست أصوات اليمين وحده هي التي توصل مرشحا ما لقصر “الإليزيه” وإنما أصوات الغالبية التي تمنح ثقتها للمرشح القادر على تحقيق انتظاراتها.

صحيح  أن “فيون” يمتاز على الصعيد الشخصي، بما يعتبره الفرنسيون سجايا أساسية لازمة في رئيس الجمهورية، ربما  افتقدوها في “ساركوزي” وإلى حد ما في خلفه “فرانسوا هولاند”

يظهر “فيون” بمظهر الفرنسي الهادئ الأنيق المحافظ على طباعه، يعيش عيشة هادئة في الظل مع أسرته الصغيرة المكونة من خمسة  أطفال وربة بيت من أصول إنجليزية عقد عليها مرتين: وفق تقاليد الكنيسة في بلادها، وحسب أصول الزواج المدني في فرنسا، مخالفا الحياة العاطفية المتقلبة للرئيس الحالي والذي قبله.

يوحي كذلك  بالثقة  ويدعو إلى الاطمئنان  بل تبدو عليه سمات “الكاهن” الذي يعد المؤمنين  بالجنة، إذا ما تحملوا شدائد الحياة وحلص إيمانهم . هنا يكمن أحد  أسباب استمالته لقلوب اليمين والوسط  الفرنسي وفئات أخرى ناقمة على اليسار وخاصة  بين كبار السن والمتقاعدين.

هل تكفي ت الصفات  الأخلاقية لقيادة أمة في حجم فرنسا؟ أكيد أنها مهمة ،على اعتبار أن الزعيم يجب أن يشكل القدوة والنموذج المحتذى لشعبه ، غير أن الفرنسيين الأنانيين والمتقلبين ، ليسوا شعبا سهل الانقياد.  وسيكتشف المرشح  “فيون” هذه الحقيقة كلما تمعن في أعماق بني وطنه ، في حاضرهم قبل ماضيهم.