لم يختف شبح إعادة الانتخابات التشريعية نهائيا من سماء إسبانيا، رغم تمكنها من تشكيل حكومة أقلية يرأسها زعيم الحزب الشعبي، ماريانو راخوي، سهلها موقف الحزب الاشتراكي العمالي الذي غاب عن التصويت في مجلس النواب، في الجلسة الحاسمة والأخيرة.
وتحاول الحكومة الإسبانية الجديدة/ القديمة، إعطاء الانطباع بأن الحياة السياسية استعادت طبيعتها وباتت البلاد أميل إلى الاستقرار السياسي مقارنة بالأشهر الأخيرة لما اقتربت من شفا أجراء انتخابات تشريعية ثالثة في غضون أقل من سنة.
ويوحي رئيس الحكومة، أنه اختار لشغل الحقائب الوزارية أحسن الكفاءات في حزبه، وطهر فريقه من أسماء حامت حولها انتقادات على خلفية أدائها؛ غير أن الرأي العام الإسباني وإن تنفس الصعداء أخيرا، فإنه لا يشعر بالرضا التام عن الفريق الوزاري الحاكم، ليس طعنا في مؤهلاته,وإنما بسبب توجهاته المحافظة من جهة وكثرة المهام الموكولة على عاتقه والمتمثلة في الإصلاحات الاقتصادية والمؤسساتية الكبرى، لا يمكن أن يضطلع بها حزب بمفرده لا سيما إذا دبر الشأن العام بحكومة أقلية برلمانية.
أول التحديات التي تنتظر الحكومة الإسبانية إقرار ميزانية عامة للدولة، تقبلها أولا القوى الحزبية التي تساند الحزب الشعبي بشكل اضطراري كما هو وضع (الحزب الاشتراكي وثيودادانوس) المستعدين، عند الاقتضاء، رفع التأييد والاصطفاف مع المعارضة الشعبوية المتربصة بالحزب الشعبي والكارهة له؛ ما يعني إجراء انتخابات سابقة لأوانها.
ومن الجائز أن تتوصل الفرق البرلمانية إلى اتفاق بخصوص الملفات الاقتصادية والمالية، بالاحتكام إلى الخبرة واستنطاق الأرقام والإحصائيات، في أطار تنازلات متبادلة؛ بيد أن أصعب ما يواجه “ماريانو راخوي” خلال ولايته الثانية والتي يتمنى أن تستوفي سنواتها الأٍربع، إنما هو ورش الإصلاح الدستوري وما سيترتب عنه من إعادة النظر في البناء القانوني للدولة وهندسة جديدة للعلاقة بين المؤسسات وضمنها السلطات الثلاث، وبين الحكومة المركزية والجهات.
وفي هذا الصدد، كان الحزب الاشتراكي العمالي، دعا مع استفحال الأزمة الكاتلانية، إلى الانتقال التدريجي من نظام الحكومات المستقلة التي تسير الشأن المحلي في جهات إسبانيا، نحو الفيدرالية، علما أن هذا المقترح الذي لم يبلور الاشتراكيون بعد ملامحه الكاملة، لن يرضي على الأغلب، نزعات الاستقلال عن المملكة الإسبانية التي ترفعها الأحزاب الانفصالية في إقليمي: كاتالونيا والباسك، حيث تحظى مطالبها بسند شعبي تؤججه روح قومية ضيقة.
ومن شأن النظام الفيدرالي في حال اعتماده، وهذا يتطلب وقتا واجتهادا ونقاشا دستوريا وتوافقا واسعا؛ أن يعمق المشكل بدل علاجه، بأن يفتح شهوات الانفصال في مناطق إسبانية أخرى لها بدورها ما يكفي من المبررات والخصوصيات المشابهة، لفك الشراكة مع الحكومة المركزية.
إلى ذلك أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة، عدم ارتياح مرتفع لدى نسبة عالية من الإسبان وقلقها من تداعيات الأزمة الاقتصادية؛ ومع ذلك يراهن عدد من المحللين على استمرار حكومة الحزب الشعبي، بشرط أن يتحلى رئيسها بالقدر الأكبر من المرونة والاعتدال وإشراك الأحزاب التي لا تعاديه، في اتخاذ القرارات الكبرى، وجعلها في منطقة الحياد الإيجابي بينه وبين المعارضة المتربصة به.
ويضيف المحللون، إن ماريانو راخوي، الذي التزم بمد يده إلى الأحزاب، هو في وضع أفضل مقارنة بالحزبين الاشتراكي وثيودادانوس. فعلى المستوى الشخصي يحظى، راخوي، بثقة الرأي العام، يضعونه في صدارة الشخصيات السياسية، مثلما أن حزبه متقدم على كافة الأحزاب، فإذا أعيدت الانتخابات فإنه سيحافظ على المرتبة الأولى، بإضافة ثلاثة نقط على الأقل ما يبقي عتبته فوق الثلاثين في المائة. صحيح أن نفس الاستطلاعات تشير إلى تقدم في شعبية “بوديموس” يقربه من 23.1 في المائة لكنها نسبة معرضة للتأرجح تبعا للوضع الداخلي لحزب، بابلو إيغليسياس، الذي قد تجتاحه صراعات داخلية، ظهرت بواردها، بين تيار الزعيم ونائبه “إنييكي إيريخون” في الانتخابات التمهيدية للمؤتمر العام.
ومن جهته، تنتظر الحزب الاشتراكي العمالي أيام عصيبة في المستقبل القريب، إذ على القيادة الجماعية المؤقتة الحالية، محو آثار الانقسام الداخلي الذي أحدثته قيادة الأمين العام المقال، بيدرو سانشيث، الذي يبدو أنه فقد كل الأوراق وبالتالي تبخر التأييد النسبي الذي يتمتع به في قواعد الحزب، بعدما تأكد كثيرون أن رهاناته السياسية كانت خاطئة هي التي ساهمت في تراجع الحزب في كافة الاستحقاقات التي أشرف عليها “سانشيث”
ومن المتوقع أن يستغرق التغيير في الحزب الاشتراكي وقتا أطول، بالنظر إلى المهام المطروحة على القيادة الحالية وعلى المناضلين الذين يجب أن يتقبلوا الأتي من التغييرات. وكما قال احد القياديين وهو “باكتسي لوبيث” رئيس مجلس النواب السابق، فإن على الحزب الاشتراكي، أن يدقق في هويته الفكرية ويصحح المرجعيات المؤسسة بغاية تحيينها ويعرف الفئات التي يخاطبها ويتوجه إليها طالبا تأييدها.
ولا يوجد في الحزب الاشتراكي من يعتقد جازما أن التغيير سيكون سلسا وممكنا، فالتنظيم يحمل وراءه تاريخا زاخرا بالنقاش والنضال كما واجهت الأجيال الاشتراكية على مدى أكثر من قرن، تحديات وتجارب مريرة.
صحيح أن القادة التاريخيين ما زوال لهم تأثير معنوي، ممثلا في الأمناء العامين السابقين، وكلهم أحياء، إذ يمكنهم بفضل تجربتهم وحنكتهم النزول بثقلهم والدفع بسفينة الحزب نحو شاطئ النجاة في حلة جديدة متوافقة مع العصر ومتطلباته.
والحقيقة أن المشكل يكمن في فئة الشباب الميالة بالفطرة إلى الأفكار اليسارية والتي قال عنها منسق القيادة الاشتراكية المؤقتة إنهم، أي الشباب، أصيبوا بعدوى أفكار “بوديموس” الشعبوية المعارضة للمؤسسة والنظام السائد.
فكم يلزم من الوقت والجهد لإقناع الفئة “الضالة” بفضيلة الوفاء للتراث النضالي الاشتراكي في إسبانيا الذي اتسم عموما بالاعتدال ومراعاة ميزان قوة الخصوم وأساليبهم في الحشد والتعبئة.
ويصح القول إن الحزب الشعبي الحاكم، يحمل فوق كاهله هاجسين :همه الداخلي، وهو محسوم على المدى القريب، إذ سيظل، راخوي، رئيسا بدون منازع للحزب في المؤتمر المقبل، فلا أحد يعارضه أو يقف في طريقه.
يبقى الهم الثاني، أي الوقوف التاكتيكي مع الحزب الاشتراكي، حتى لا ينهار ويتشرذم، وهذا ما يريده الشعبويون من “بوديموس” واليسار الموحد، فضلا عن ا المعادين له في الأحزاب القومية.
تجدر الإشارة إلى أن أصواتا اشتراكية برزت في إقليم كاتالونيا، نادت بفض الشراكة التنظيمية مع الحزب الاشتراكي العمالي التي استمرت قرابة أربعة عقود، احتفظ الفرع الكاتالاني، باستقلاله النسبي دون تعارض مع رفاقهم في الاشتراكي التاريخي..
ولا يحظى هذا التوجه بتأييد كبير ولكنه مؤشر على مشكل إضافي ستواجهه القيادة الاشتراكية التي ستنبثق عن المؤتمر العام، إذا ما تيسر انعقاده في ظروف طبيعية.