قرار شجاع ويوم سعيد في الثكنة

غزلان جنان
وجهات نظر
غزلان جنان18 مارس 2014آخر تحديث : منذ 10 سنوات
قرار شجاع ويوم سعيد في الثكنة
قرار شجاع ويوم سعيد في الثكنة
c919010fcec2d336e223258a493e5ce9 - مشاهد 24

«وداعا للقضاء الاستثنائي.. مرحباً بالقضاء المتخصص»، هذا أحد العناوين الممكنة لخبر صدور مشروع قانون جديد للمحكمة العسكرية.
نهاية الأسبوع الماضي اتخذ المغرب الخطوة الأولى لدفن المحكمة العسكرية التي كانت تشكل آخر قلاع القضاء الاستثنائي، بعدما دفن محكمة العدل الخاصة قبل أكثر من عشر سنوات. ما هو المغزى من هذا الحدث السعيد؟
المحكمة العسكرية كانت محكمة استثنائية لا تتوفر على أدنى شروط المحاكمة العادلة، والأخطر أنها كانت تحاكم المدنيين إلى جانب العسكريين بلا فرق، فهي محكمة على درجة واحدة من التقاضي، أي أن أحكامها لا تُستأنف، علاوة على أن قضاتها كانوا يميلون إلى التشدد مع المدنيين والعسكريين، والأخطر أن محكمة النقض، وبسبب الحساسية التي أحيطت بالمحكمة العسكرية، لم تكن تنقض أحكام هذه الأخيرة في الغالب، وإذا فعلت فإن نفس هذه المحكمة تعيد النطق بنفس الأحكام، وربما تصبح أقسى من الأحكام الأولى.
لا شيء كان في عرف المحكمة العسكرية اسمه قرينة البراءة، أو المتابعة في حالة سراح، أو انتصاب طرف مدني بين أيديها… علاوة على أنها كانت رمز عدم تساوي المغاربة أمام القانون. فالمواطن المدني الذي يرتكب جريمة السياقة في حالة سكر، أو رفض أداء النفقة لطليقته، أو ارتكب الخيانة الزوجية، أو أية جريمة حق عام، يعرض على القضاء المدني، ويستفيد من التقاضي على درجتين، ومن مهلة كافية لإثبات براءته، أو يتابع في حالة سراح، وقد ينتصب طرف مدني معه أو ضده، لكن زميله المواطن العسكري، الذي يرتكب نفس الجريمة، يذهب إلى محكمة عسكرية دون أية ضمانات للمحاكمة العادلة. أكثر من هذا، كانت أحكام هذه المحكمة، خاصة في القضايا الحساسة (مثل محاكمة أكديم إيزيك)، تجلب المشاكل للمغرب عن طريق المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية لأن أحدا لم يعد يعترف بالمحاكم الاستثنائية في عصر المحاكمات العادلة وحقوق الإنسان ودولة القانون.
مشروع القانون الجديد، الذي مر يوم الجمعة من أمام الملك محمد السادس في المجلس الوزاري، يعد قفزة مهمة نحو دولة الحق والقانون، وتساوي المواطنين أمام القضاء، وتحديث المؤسسة العسكرية، وجعلها تحت القانون لا فوقه.
إنه قرار شجاع من القائد الأعلى للقوات المسلحة في مناخ إقليمي يشهد تغول نفوذ المؤسسة العسكرية في نسيج الدول العربية. أن يأتي الملك ويقول إن المحكمة العسكرية لن تحاكم بعد اليوم مدنيا حمل السلاح، أو تورط في جريمة عسكرية، أو اعتدى على جنرال أو كولونيل أو ضابط أو حتى مخزني، وإن القضاء المدني هو المخول بالنظر في كل الجرائم التي يرتكبها المدنيون كيفما كانت خطورة هذه الجرائم.. هذا معناه أن هناك وعيا وجرأة كبيران لمطابقة النظام القضائي مع المعايير الدولية. ليس هذا فحسب، مشروع القانون الجديد للمحكمة العسكرية أخرج جرائم الحق العام التي يرتكبها العسكريون من اختصاصها، وجعل القضاء المدني هو سيد العدالة في المغرب، وهذا معناه أن المؤسسة العسكرية ستصبح مؤسسة كباقي المؤسسات، ولن تعود لها اليد الطولى على أفرادها إلا في ما يتعلق بالجرائم والجنح التي يرتكبها العسكريون بصفتهم العسكرية (مثل جريمة الانقلاب أو الفرار من الجندية أو التمرد أو الاستيلاء على السلاح…)، أما جرائم الحق العام التي يرتكبها الجيش والدرك والمخازنية والمجندون، فإنها تذهب إلى القضاء المدني مثلها مثل جرائم الحق العام التي يرتكبها المدنيون، وحتى الجرائم العسكرية التي يرتكبها العسكريون أثناء مزاولتهم لمهامهم أحيطت ببعض ضمانات المحاكمة العادلة، مثل التقاضي على درجتين، وانتصاب الطرف المدني، وإحداث مؤسسة الوكيل العام التي كانت غائبة في القانون القديم. طبعا هناك من الحقوقيين من لايزال يطالب بتضييق اختصاص هذه المحكمة وجعلها تشتغل فقط في زمن الحرب، مع تضييق مفهوم الجريمة العسكرية الذي جاء فضفاضا في مشروع القانون الجديد.
القرار لم يكن سهلا رغم وجود توصية من المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ورغم وجود توجه حكومي مساند لهذا الإصلاح الحقوقي المهم جداً. لماذا لم يكن سهلا؟
لأن ثقافة المؤسسة العسكرية، كباقي المؤسسات التي تنتمي إلى هذا الطابع الخاص، تميل دائماً نحو تركيز صلاحيات الضبط والتحكم والمراقبة بين يديها على أبنائها أولا، وعلى شركائها ومحيطها ثانيا، ولأن ثقافة الجيش، في جل الأنظمة في العالم الثالث، تنظر بشبه احتقار أو تعالٍ أو استهانة إلى المؤسسات المدنية، وإلى القضاء المدني، وترى أنه قضاء مهلهل وربما فاسد وغير كفؤ، ولا تليق منهجية اشتغاله مع صرامة المؤسسة العسكرية وانضباطها. طبعا هذا تصور خاطئ في ذهن وذاكرة العسكرتاريا التقليدية. اليوم قوة المؤسسات تقاس باحترامها لحقوق الإنسان، ومبادئ العدالة، وتساوي المواطنين أمام القضاء، والنظرة الإيجابية إليها من طرف مواطنيها ودافعي الضرائب الذين يمولون الجيش وثكناته ليكون في خدمة الصالح العام ومبادئ العدالة.
القرار الأخير بإلغاء القضاء العسكري الاستثنائي مساهمة كبرى في تحديث المؤسسة العسكرية نفسها، وإعادة رسم صورة جديدة لها في عيون الرأي العام المغربي وعيون أبناء الجيش الملكي الذين صارت لهم نفس الحقوق التي للمدنيين أمام القضاء المدني، وهذا ما يفرض أعباء جديدة على هذا القضاء ومهام إصلاح مستعجلة…
“أخبار اليوم” المغربية

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق