إطفائيو الجزائر!

في الجزائر رئيس نائم في فراش المرض لا يعرف ماذا يدور من حوله، وحكومة فاشلة منقطعة عن المجتمع، ومؤسسات «منتخبة» يهتم مَن فيها ببطونهم وأعمالهم فقط، ومعارضة ليس لها من المعارضة إلا الاسم.
وسط هذا البؤس العام وقعت الاسبوع الماضي مواجهات دامية في تقرت، المدينة الصحراوية الهادئة التي تبعد عن العاصمة نحو 800 كلم، لكنها تبعد عنها بنحو 800 سنة ضوئية.
بدأت مظاهرات بسبب مطالب اجتماعية وحياتية تحوّلت إلى شغب أسفر عن تدخل الشرطة فلقي ثلاثة شبان من المتظاهرين حتفهم.
أحداث تقرت ليست جديدة أو غريبة. تحدث مثلها في كثير من مدن وقرى الجزائر بشكل شبه يومي، ما يعبّر عن حالة غليان يعيشها المجتمع وتعمل السلطة، مركزيا ومحليا، على ألا يرتقي هذا الغليان إلى انفجار، لكن دون معالجة أسبابه.
هناك غياب فادح لقنوات التواصل والحوار بين السلطات والمجتمع. والنتيجة عندما تقع هذه الاحتجاجات ترسل السلطة شرطة التدخل للتحاور مع المحتجين بالهراوات والغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه الساخنة، فيرد الآخرون بالحجارة وزجاجات المولوتوف والإطارات المحترقة في الطريق العام.
وإذا ما زهقت ارواح أو أنذر الوضع بالخروج عن السيطرة يهرع المسؤولون ويتصرفون وكأن الذي حدث ليس غضبا واستياء منهم وعليهم.
زرتُ ولاية ورقلة التي تتجاوز مساحتها 161 ألف كلم مربع، وتقرّت الواقعة في جغرافيتها، صحافيا مبتدئا سنة 1990. وعدتُ إلى المنطقة ضمن وفد وزاري في السنة ذاتها، فاستمعت في الزيارتين إلى الشكاوى نفسها تُلقى باليأس نفسه والاستجداء نفسه على مسامع الوزراء والمسؤولين. بل كان بعض الشاكين يقتربون من الصحافيين، معتقدين أنهم جزء من الوفد الحكومي وفي ايديهم الحل والربط، فيسلمونهم مظاريف تحمل شكاوى وتظلمات.
أذهلني في الزيارتين بُعد المسافة الزمنية والحياتية بين العاصمة والشمال عموما، وهذه المنطقة التي تقف على بحر من النفط والغاز تحت أقدام سكانها. كنا في العاصمة شبابا نبحث عن بعضٍ من ترف الحياة، فوقفتُ في تقرت على شباب يطالبون بالحد الأدنى من متطلبات الحياة. كثيرون لا يتعدى حلمهم الأكثر جرأة الحصول على وظيفة سائق أو حارس في شركة النفط ـ سونطراك ـ التي يشاهدون أسوار مجمعاتها السكنية بالعين من الخارج ويحلمون بأن تطأ أقدامهم ما وراء الحاجز الأمني الأول المؤدي نحوها.
في الايام القليلة الماضية، وعلى إثر المواجهات التي حدثت، وبعد «حوار غازات الدموع وزجاجات المولوتوف» هرع أركان الحكومة إلى هناك مثل الإطفائيين للحيلولة دون تدهور الوضع أو امتداد الغضب إلى مناطق أخرى في الولاية ذاتها أو خارجها.
في متابعتي لتغطية هذه الزيارة في التلفزيون الجزائري سمعت مسؤولين حكوميين، بينهم وزير الداخلية، يطلقون وعودا تشبه إلى حد التطابق وعود وزراء ومسؤولين رافقتهم في زيارة المنطقة قبل 24 سنة. كأننا في 1990، مع فارق أن الناس في تلك الفترة كانوا محتفظين ببعض الأمل في الايام وبعض الثقة في مؤسسات الحكم. اليوم لا أمل في شيء ولا ثقة في أحد.
فجأة بسبب هذه الأحداث وخطورتها، تحوّل والي ولاية ورقلة إلى نجم تلفزيوني يشاهده الجزائريون كل مساء في نشرات الأخبار يزور القرى ويلتقي الناس ويطلق الوعود التي أطلقها آخرون قبله بربع قرن.
لو لم يثر شباب المنطقة ويصل الأمر إلى حد الموت، لما كلف وزير الداخلية الطيب بلعيز نفسه عناء السفر الى هناك مرفوقا بجيش من المسؤولين. ولولا الغضب الذي أُريقت خلاله دماء لما أصبح والي ولاية ورقلة نجما تلفزيونيا يُمنح مساحة في نشرات الأخبار تنافس المساحة الممنوحة للوزراء.
رغم كل ذلك، ليس من المبالغة وليس من الإفراط في التشاؤم القول إن ورقلة وتقرت لا زالتا بعيدتين عن الحل. وليس من باب تثبيط العزائم القول إن ما حدث الأسبوع الماضي ودور رجال الإطفاء الذي لعبه وزير الداخلية وأركانه ليس إلا حلقة من مسلسل له حلقات أخرى. لقد كان هناك وزراء ومسؤولون سابقون لعبوا الدور نفسه وأداروا الأزمات دون حلها، وسيأتي آخرون يقومون بالدور نفسه في المستقبل.
واقع الحال أن ورقلة هي جزائر مصغرة، وهي ليست مجرد أزمة اجتماعية أو غضب شبابي، إنها عنوان إفلاس حكومي يتجسد في أغنى منطقة جزائرية تحت الأرض وأفقرها فوق الأرض. هي رمز لعجز سلطة شاخت وتآكلت ولم يعد لديها ما تنتج غير الفشل.
ورقلة، لشدة استيائها استقبلت حتى الرئيس بوتفليقة بالغضب والاستهجان في 2009 عندما كان بمقدوره الوقوف على رجليه. واستبقت زيارته له يوم إعلان ترشحه لولاية رئاسية ثانية في 2004 بمظاهرات غضب أسفرت عن مواجهات وخسائر مادية فادحة. وأذاقت رئيس وزرائه عبد المالك سلال في 2014 أسوأ استقبال يمكن أن يُخصَض به رئيس حكومة.
وبين 2004 و2014 كانت المنطقة على مواعيد دورية مع الغضب والاحتجاجات الشبابية، والمطالب واحدة: سكنات، وظائف، نصيبنا من «نفطنا»، نصيبنا في سونطراك، حقنا أن نعامَل كجزء من هذا الوطن لا كمجرد مساحة أرض تختزن الثروات الطبيبعية.
يبدو أن قدر تلك المنطقة أن تتحمل نفاق المسؤولين في العاصمة وعدم كفاءتهم وتركيزهم التفكير فقط في كيفية إدارة الأزمات والأوقات العصيبة للخروج منها بأخف الاضرار. وإلا كيف ولماذا تتكرر المطالب نفسها على مسامع المسؤولين ربع قرن من الزمن؟

٭ كاتب صحافي جزائري/”القدس العربي”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *