تونس التائهة بين الضفة والقطاع

غزلان جنان
2014-10-22T12:03:00+01:00
وجهات نظر
غزلان جنان2 أكتوبر 2014آخر تحديث : منذ 9 سنوات
تونس التائهة بين الضفة والقطاع
تونس التائهة بين الضفة والقطاع

استغرق الامر اكثر من عشرين عاما لتراجع السلطات في تونس قرارا بتجميد الربط الجوي مع العراق. ففي الاول من يونيو/حزيران الماضي نظمت اولى الرحلات على خط تونس اربيل، وبدأ الحديث على الفور حول عودة محتملة ووشيكة لخط تونس بغداد. لكن ما حصل في ظرف عشرين يوما فقط اسقط كل الحسابات والتوقعات في الماء، لترتد الاوضاع الى نقطة الصفر ويستأنف التجميد مرة اخرى، بدعوى التقدم الكاسح والمخيف لـ»داعش» واخواته في اجزاء واسعة من العراق، بعد ان ظل المبرر الاول والوحيد لذلك التجميد نفسه، هو الحظر الجوي الذي فرضه مجلس الامن على بلاد الرافدين منذ مطلع التسعينات.
كشر تنظيم «داعش» عن انيابه، فارتعدت فرائص الجميع شرقا وغربا، واستعد تحالف عالمي ضخم ضم اربعين دولة للمواجهة الكبرى في حرب ضروس رآها القادة الكبار مفتوحة بلا سقف او حدود. فجأة صارت تحركاته واخباره وجبة يومية لا تغيب عن موائد الصحف والتلفزيونات. فالتونسيون يشكلون النسبة الاكبر والاهم للمقاتلين في صفوفه، وفقا لما تذكره الارقام والاحصائيات، وحتى مشاهد قطع الرؤوس او خطف الرعايا الاجانب، اصبحت محرارا دقيقا تقاس به عافية الاقتصاد والسياحة، بعد ان نشرت باريس لائحة لدول نصحت الفرنسيين «بتوخي اقصى درجات الحيطة والحذر» عند زيارتها، ومن ضمنها تونس، فور الاعلان عن اعدام الرهينة ايرفيه غورديل في جبال الجزائر. لم يفتح ذلك كما توقع او انتظر البعض بابا لاصطفاف واضح ومباشر خلف «التحالف الدولي»، فتونس مثلما يقول كاتب الدولة لدى وزير الخارجية في تصريح اذاعي «لن تشارك في الائتلاف، لان لديها مشاكل داخلية… رغم انها ليست محايدة وليست ضد الائتلاف». اما الإشكال فلم يعد مجرد استئناف الربط الجوي او تواصل تجميده حتى اشعار جديد، او حتى الدخول ضمن التحالف او البقاء خارجه، بل في تلك الروابط الحضارية المنكوبة والمنهارة مع الشرق منذ عهد الاستبداد، التي استمرت مبتورة بعد زواله، وليس هناك في الافق القريب ما يدل على التئامها او عودتها الى وضعها الطبيعي المطلوب، بل لعل الامر يحتاج لاكثر من جيل لينزاح بالكامل ما علق بها من تشويه وتنميط خادع وحتى ازدراء وتجاهل مقصود. رؤوس مقطوعة اشلاء وبرك من الدماء، هذا هو الشرق الذي يستبطنه قسم واسع من التونسيين الان عبر وسائل اعلامهم، بعد ان سيطرت خلطة التعصب الاعمى والتخلف والجهل على مخيالهم منذ السنوات الاولى للاستقلال، لما حاول حكامهم قطع الحبل السري بينهم وبين رموز الثقافة العربية ومظاهرها، تحت مبرر اللحاق بالامم والشعوب المتطورة على الضفة الشمالية للمتوسط. ما حصل بعد ذلك لا يحتاج شرحا واسعا، فكل تلك السنوات العجاف وما تلاها انتجت شخصيات ممزقة بين انبهار خادع بالضفة الشمالية واضوائها ومشاعر مختلطة بالمرارة والاحباط من ثقل الانتماء الجغرافي قبل الحضاري، لقطاع شاسع ومحاصر ومجهول، هو قطاع الهوية العربية والافريقية، لم يكن سهلا او يسيرا الانفصال عنه وعن واقعه المأزوم بشكل تام ونهائي، رغم المحاولات والجهود. مثل ذلك التمزق الحاد قاد في الغالب نحو امرين اثنين، إما التهافت المحموم نحو شمال الضفة للمعدمين بحثا عن الثروة، وللاثرياء حفاظا عليها، او التسابق العشوائي المرعب نحو محارق الشرق وصراعاته السلطوية في القطاع العربي تحت مسمى الجهاد ونصرة المظلومين. وفي كلتا الحالتين كانت الحصيلة ثقيلة وعالية التكاليف.
جزء من التفسير لذلك المشهد السريالي والعبثي قدمه الدكتور المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية في موكب الاحتفال باليوم العالمي لافريقيا اواخر مايو/ايار الماضي، لما قال في خطاب أثار في حينه موجة واسعة من الانتقاد والسخط وصلت حد رفع قضايا عدلية ضده « انا دائما اضحك عندما اسمع التوانسة يقولون عندما يذهبون الى بوركينا فاسو والى السنغال انهم يذهبون الى افريقيا. انا اضحك لاني اعتبر ان هذا الكلام دليل على عمق جهلهم بان افريقيا كلمة امازيغية تعني الشمال الغربي في تونس». الجهل الذي يعنيه الدكتور المرزوقي ليس فعلا طوعيا واراديا، بل هو عمل استراتيجي معمق اشتغلت عليه مراكز للدراسات والبحوث وروجت له دوائر الثقافة الغربية في الداخل والخارج بشكل مكثف ومتواصل.
لقد ادى ذلك الجهل او التجهيل الى ان تظهر اجيال باكملها لا تعرف التاريخ والجغرافيا ولا تنطق لغة واحدة سليمة، بل تعيش وتقتات على امل كاذب هو القفز يوما وراء الحواجز والمتاريس التي نصبها الاوروبيون باحكام خلف حدودهم لمنع المغامرين من الوصول الى الجنة البعيدة الموعودة. وبحسب اخر احصاء لاعداد الحالمين الذين حاولوا الوصول الى تلك الجنة، اشار اليه مسؤول في الهلال الاحمر التونسي في تصريحات اعلامية على هامش الاجتماع السنوي للبرنامج المتوسطي للهلال الاحمر والصليب الاحمر حول الهجرة، فان «ما يقرب من 20 الف مهاجر غير شرعي خرجوا من تونس في اتجاه سواحل دول اوروبية منذ احداث الثورة». اما اعداد الغرقى والضحايا فلا احد بمقدوره معرفتها او حصرها بدقة. المأساة الاغريقية نفسها تتكرر، في بحث صنف آخر من الشباب عن جنة بديلة خارج الارض قد تكون سوريا او العراق هي نقطة الانطلاق الاولى نحوها. ووفقا لما صرح به وزير الداخلية فان السلطات منعت في الشهور الاخيرة اكثر من تسعة الاف تونسي من السفر قصد الالتحاق بالجماعات المقاتلة هناك، ولا شيء ايضا يشير بوضوح لا الى اعدادهم ولا الى مصيرهم ومستقبلهم.
لا تفتح اوروبا ذراعيها لاستقبال الغرباء وما يجده هؤلاء القادمون من الضفة الجنوبية للمتوسط بعد رحلة شاقة وخطيرة هو الفتات والذل. وقد ترمي به ايضا حتى القوة العظمى من وراء المحيط كما تفعل امريكا هذه الايام، باعلانها اصدار 50 الف تأشيرة للاقامة الدائمة في اراضيها للتونسيين والليبيين بواسطة القرعة او الحظ. قد يكون الامر عاديا ومفهوما، لكن الخطير هو ان رفض الشمال وازدراءه للتونسيين يقابل بنوع من رد الفعل المعاكس نحو سكان القطاع العربي الغارقين بدورهم في الازمات والمحن. فلم يعد مجديا انكار مشاعر العداء التي تنامت بشكل غير مسبوق داخل تونس للوافدين الليبيين اليها هربا من نار الحرب الاهلية. اذ بعد الحديث الخافت عن تسببهم في الارتفاع الصاروخي للاسعار ومزاحمتهم للتونسيين في قوتهم، واستفادتهم حتى من دعم الدولة للمواد الاساسية، تحول الحديث الان الى ان وجودهم يشكل تهديدا لما وصفه استاذ جامعي على موجات محطة اذاعية خاصة، «بنمط حياة التونسيين بالنظر الى وجود انشطة وثقافة جديدة تزامنت مع توافدهم على تونس».
فهل يكون الحل بعد ذلك في طردهم وغلق الحدود امامهم، مثلما تفعل اوروبا مع التونسيين وغيرهم؟ حتى في صورة ما اذا اقدمت تونس يوما على تلك الفرضية المستحيلة والبعيدة فهل ستفتح القارة العجوز ابوابها المقفلة في وجه الراغبين بالعيش فيها بالنمط الاوروبي والحداثة الاوروبية؟
لقد اشار تقرير صدر عن البنك الدولي اواخر الشهر الماضي وحمل عنوان «الثورة غير المكتملة… توفير فرص ووظائف افضل وثروة اكبر للتونسيين» الى ان تونس قطعت شوطا مهما في المسار السياسي، لكنها الان بحاجة للاصلاح الاقتصادي. في التقرير نفاق غربي مزمن قد يلخصه المثل الشعبي الذي يقول «يقتل القتيل ويمشي في جنازته». فمن تسبب في المأساة هو الذي يقترح الان حلا للخروج منها. وتلك ازدواجية اخرى ليست اقسى واشد من ازدواجية الضفة والقطاع التي استحكمت داخل تونس وصار الفصل فيها مؤجلا كعدة اشياء الى اجل بعيد وغير معلوم، وقد يكون آخرها ذلك الخط المجمد مع العراق الذي لن تزعج اشهر او سنوات اضافية من جموده، الكثيرين على ما يبدو داخل تونس او حتى خارجها.
٭ كاتب وصحافي من تونس

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق