تونس: هل ينفع تعلم اللغات الأجنبية في سن مبكرة؟

غزلان جنان
وجهات نظر
غزلان جنان14 سبتمبر 2014آخر تحديث : منذ 10 سنوات
تونس: هل ينفع تعلم اللغات الأجنبية في سن مبكرة؟
تونس: هل ينفع تعلم اللغات الأجنبية في سن مبكرة؟
67716010088d842e8d08aabd0f4656cd - مشاهد 24

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن نية وزارة التربية في تونس تدريس اللغة الفرنسية ابتداء من السنة الثانية ابتدائي وكذلك الانكليزية ابتداء من السنة الثالثة ابتدائي (حسب تصريح وزاري بتاريخ 27-8-2014).
ونظرا لأهمية الموضوع رأيت من واجبي أن أدلي بدلوي في مثل هذا البحر التربوي والبيداغوجي واللغوي بصفتي مدرّساً للغة الأجنبية وأيضاً بصفتي مدوّناً باللغات الثلاثة، العربية والفرنسية والانكليزية.
انطلاقا من القلق الذي تثيره لديّ مسألة السنّ ـ بالخصوص ـ المقترحة لتدريس اللغتين الأجنبيتين المذكورتين، بودي أن أتناول الموضوع من الزوايا التالية: لماذا مسألة السن مقلقة وماذا وراء تخوّفي من تعليم اللغات الأجنبية في سنّ مبكرة؟ ما هي المبررات التي يعتمدها أنصار خيار السنّ المبكرة التي اقترحتها الوزارة؟ هل تستقيم هذه المبررات في شروط الزمن الراهن؟ ما هو الوضع اللغوي في الوقت الراهن وموقف الناس من المسألة اللغوية؟
إنّ مسألة السن مشبوهة لعدة أسباب في ما يلي أهمها: لم يحسم الخبراء العرب وبصفة وِفاقية في تحديد طبيعة اللغة العربية الفصحى، إن كانت هي اللغة الأم أم اللهجات العامية. وبالتالي قد يكون من باب أولى أن تخصَّص السنوات الأولى من الفترة الابتدائية لجبر الضرر الحاصل على امتداد فترات طويلة سابقة كنتيجة للتذبذب بشأن تعليم الفصحى مباشرة أم تعليمها بالاستئناس بالعامية (هذا الموضوع مركزي لكن الحيّز المتاح هنا لا يسمح لي بالتوسع فيه).
أما السبب الثاني فيتمثل في تعارض تعليم اللغة الأجنبية مع القانون الألسني (نظرية “النحو الكلي” أو “يونيفارسل جرامر” بالانكليزية: تشومسكي 1964) الذي بمقتضاه لا ينبغي تدريس لغة أجنبية للناشئة ما لم ترسخ مبادئ اللغة الأم لدى المتعلم (بالنسبة للتونسي سواء كانت اللغة الأم هي العربية الفصحى أم العامية فليس هذا مهمّا في هذا الباب).
ما من شك في أنّ وزارة التربية في تونس فكرت بتلك الطريقة المخالفة لأبجديات علم اللسانيات لا لشيء سوى لأنها لا تملك الحلول التي تُجنبها التمادي في تدريس بعض العلوم بالفرنسية، أو لأنها تعتقد أنّ بقدر ما تطول مدة تعلم اللغة الأجنبية ما يكون ذلك أفضل لتملكها، أو مجاراة جانب من الرأي العام الذي يفضل التظاهر بالحداثة على الإذعان للحتمية العلمية، بدعوى أن العربية لا يمكن أن تنافس الانكليزية في كونها لغة العلم والبحث العلمي، أو لإشباع رغبات بعض الفئات الاجتماعية التي تعتقد أنّ جيل الخمسينات والستينات من القرن المنقضي قد تعلم الفرنسية في سن مبكرة ولم يؤثر ذلك سلبا لا على مردوده في اللغة العربية ولا على أدائه في اللغة الفرنسية بل كان ذلك عاملا مسهلا لتملك اللغتين الاثنتين معاً.
أما السبب الأرجح فهو أنّ حكومة التكنوقراط قد تكون أرادت إنجاز “لمسة فنية” (“تقنية” و”تكنوقراطية”) استجابةً لقواعد لعبة العولمة ظنا منها أنّ الناشئة في تونس ملزمون بتعلم اللغات الأجنبية للتوّ وإلا فسيأخذهم طوفان الجهل والتخلف.
بينما أعتقد أنّ مثل هذه المبررات مردودة على أصحابها.ولئن يؤكد الخبراء على ثبوت صحة قابلية الأطفال لتعلم اللغات الأجنبية بشكل يجعلهم يتقنونها مثلما يتقنها الناطق الأصلي بها فإنهم يعتبرون أنّ ذلك صحيح فقط بخصوص النطق.
كما أن آخرين يعترفون بأنّ بدء تعلم اللغة الأجنبية في سنّ مبكرة يعني ظاهريا دراسة أطول للغة الأجنبية وأداءً أفضل من أداء الذين بدأوا تعلمها في سنّ متأخرة، لكنّهم يؤكدون أنّ “هنالك حجة على أنّ ذلك غير صحيح خاصة عندما تحلّ اللغة الثانية محل اللغة الأُولى ولم تسمح لها أبدا بأن تتطور كما ينبغي” مذكرا بأنّ هنالك مَن حذّر مما يسمى بـ” شبه الازدواجية اللغوية المضاعفة” (طوم سكوفل، 1999) ومقترحا أن تكون السن المثلى لبدء تعلم اللغة الأجنبية 11-13 سنوات كما جاء في دراسة أخيرة.
أما إن كانت حجة وزارة التربية على ضرورة إدراج التعليم المبكر للغات الأجنبية هي أنّ هذه الأخيرة لغات العلم والبحث العلمي وما العربية إلا لغة الأدب والفن فلا يسعني إلا أن أذكر بشبه الإجماع الحاصل حول قدرة اللغة العربية، إن تاريخيا أم جوهريا، على مواكبة المعارف والعلوم.
فبالرغم من أنّ “هناك من يعتقد، كحال الدكتور فهد الراشد، مسؤول وحدة البحوث والنشر في إدارة الثقافة بمنظمة ألكسو أنّ اللغة العربية تعيش في أزهى عصورها” إلا أنّ أصْل المشكلة في نظر الخبراء يكمن في أنّ “هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات الحكومية العامة والخاصة والمدارس ووسائل الإعلام (..) لأخذ زمام المبادرة وتنبني طريقة الاشتقاق والاصطلاح العلمي واستخدامها على نحو واسع ومتواصل لتكريسها لدى السامع والقارئ”.
إذن إنّ أفضل طريقة لتطوير العربية هي في نهاية المطاف التزام الناطقين بها ـ وخاصة الشباب ـ بواجب التطوير حيث إنّه، كما ذهب إليه الدكتور حسين الشافعي رئيس “مجمع الخالدين” في مصر، ليست اللغة العربية هي التي تتدهور، “إنما الذي يتدهور هو اللغة على لسان الناشئة”.
نأتي هنا إلى حجة الحنين الذي يكنّه أترابي وكثير من المنتمين إلى جيل الثمانينات أيضا بخصوص انسجام تعلم اللغتين العربية والفرنسية فأقول لهم: إنّ الظروف تغيرت بشكل رهيب، وبالتالي فمن المفترض أن تتغير الوسائل والمناهج أيضا.
حين درسنا نحن الفرنسية كنّا نأمل أن نفعل بها شيئا يضاهي ما يفعله الفرنسيون بها آنذاك، أما اليوم فالشعب التونسي ملّ من رؤية الفرنسية تُفرَض على الناشئة بينما غالبيتهم واعون بتقدم الانكليزية عليها تقريبا من كل الزوايا. كما تفطن الكثيرون لكون هذه اللغة أداة للاستعمار أكثر منها أداة لتحقيق الحداثة.
في الأثناء، أي في الفترة الفاصلة بين صعود جيلي أنا وصعود الأجيال الحاليّة (لنقُل في حقبة الثمانينات) فقدَت اللغة العربية من ثقة الناس فيها، ما دفع الحكومة آنذاك (محمد مزالي) إلى إنجاز صنف من التعريب طال اللغة الفرنسية بعينها حيث إنه أفسد سياقها الثقافي وقدمها للتونسيين لكأنها مادة استهلاكية لا غير، فاغتيلت الفرنسية ولم تقم لها قائمة إلى اليوم. فلا العربية وقع نفض الغبار عنها ولا الفرنسية حافظت على صفتها كلغة.
لقد دام هذا الحال طوال عقدين من الزمن إلى أن شرعت وزارة التربية في 2004 في تدريس الانكليزية لأطفال الخامسة ابتدائي قبل أن تتراجع سريعا فتحوّل العمل بهذا البرنامج ابتداءً من السنة السادسة عوضا عن الخامسة.
أسأل أنصار هذا التوجه واتخاذه حجة على دعم تدريس اللغات الأجنبية في سن مبكرة: هل أنّ الذين تربَّوا على هذا البرنامج- وهم ممن بلغوا الآن السنة الثانية من التعليم العالي، إذا لم يرسبوا- يجيدون اللغة الانكليزية؟
إنّ جوابي هو “لا”، وذلك من منطلق ما لاحظته من خلال تجربتي الخاصة في التعليم ومن خلال تقصي الأمر لدى عينات من التلاميذ ومن أولياء أمورهم.
ولكن أعترف، في المقابل، أنّ أثناء تلك الفترة وإلى اليوم (2004-2014) برزت أقلية من الناشئة يتقنون اللغة الانكليزية كما لم يتقنها قبلهم أحد فذلك مردّه أنّ هؤلاء من نتاج المراكز الأجنبية – الأميركية والبريطانية – لتدريس الانكليزية (وهي مراكز مكْلفة ماديا يأويها عادة ميسورو الحال من الشباب، وذلك فضلا عن المراكز الفرنسية التي تنظم دروسا لتوطيد لغتها)، لا من نتاج وزارة التربية، إذ تتوقف مهمة هذه الأخيرة في خندقة هؤلاء المتفوقين في اللغة الأجنبية في قناة الإعداديات والثانويات “النموذجية” (مدارس النخبة المتمدرسة).
فهل أنّ نية الوزارة تعليم اللغتين الأجنبيتين في سنّ مبكرة من هنا فصاعدا هي إعطاء فرصة أخرى لهذه المراكز الأجنبية الخاصة لاستقطاب أبناء الطبقة الميسورة نحو دعم تعلمها لهاتين اللغتين على حساب أبناء الطبقة المتوسطة والطبقات الكادحة (بل إنّ الطبقة المتوسطة صارت كادحة هي الأخرى)، والحال أنّ هذه المراكز أضحت ضالعة في تنفيذ مقررات العولمة اللغوية التي تنبني على قاعدة تهجين اللغات المحلية ولا يهمها شاغل التعددية اللغوية السليمة؟ أليس الأولى والأحرى أن تفكر الوزارة في دعم مبدأ دمقرطة التعليم – التعليم للجميع، ميسرو الحال والمعوزون على حدّ سواء- مثلما هو الشأن في البلاد الاسكندينافية وبعض الدول الراعية، وهو مبدأ تولت تنفيذه بكل حرص دولة الاستقلال في تونس، أم أنها تفضل الانسياق إلى التيار السياسي والاقتصادي النيوليبرالي، مما يفضي حتما إلى رزوح البلاد والعباد تحت نير الاستعمار الثقافي عبر اللغة؟
نستنتج مما سبق أنّ الوضع الراهن للغة – في مختلف مجالات الحياة- يعكس سياسات لغوية عشوائية. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ وزارة التربية ليست وحدها المسؤولة عن هذا الوضع. فالعوامل التي ذكرناها بخصوص المسؤولية عن غياب مشاريع لتطوير اللغة العربية هي نفسها العوامل الضالعة في تنامي ظاهرة الاستعمار الثقافي عبر اللغة الأجنبية، وبالتالي فإنّ المجتمع التونسي بمختلف مكوناته مسؤولٌ عن مثل هذا الوضع.
إنّ هذا الصنف من الاستعمار، فضلا عن الازدواجية اللغوية “الأمّارة” (بتعبير د.محمود الذوادي) التي يعيشها مجتمعنا منذ عقود، أفضى إلى وجود هذا الأخير في حالة حصار عنيف، في مشهد ثلاثي الأبعاد هذه المرة، حيث إنه على شفى حفرة من مستنقعٍ يمكن تسميته “التعددية الهدامة” (نسبة للفوضى الهدامة، الوجه الحقيقي للفوضى الخلاقة، أداة العولمة).
فالذي زاد الطين بلة أنّ في وقت كان فيه التونسيون في أمسّ الحاجة إلى سياسة لغوية تصحح تناقضات الازدواجية اللغوية الأمارة (عربية/فرنسية) هاهُم يجدون أنفسهم مهددين بمَوجات من المفردات ـ الانكليزية هذه المرة ـ جلبتها وسائل الاتصال الحديثة والعولمة تحاول الاستحواذ على الخطاب “الصادر” وتقويض النحو العربي وتلويث السياق التواصلي.
إنّ كلمات مثل “لوغ إين؛ لوغ آوت؛ داونلود؛ غايم آوفر؛ نوب؛جاي جاي؛ ليفل؛ رَنك؛” وغيرها انضافت إلى الأخرى التي بالفرنسية مثل “تيليشرجي؛ ريزو؛ فورماطاج” وغيرها، بشكل جعلنا نسمع جملا لغوية غير مفهومة بالرغم من سلامتها المورفولوجية والفونولوجية والهيكلية.وهي جمل لا معنى لها سوى لدى من يبنونها ولدى الفئة القليلة من متقبليها، من صنف الجملة التشومسكية الشهيرة “الأفكار الخضراء غير الملوّنة تنام باهتياج” (ترجمتي).
وفي ما يلي عينات من جمل سمعتها وشكلت عائقا أمامي فلم أفهمها على التوّ:
أ.”رأيت ‘اللاكوست’؟”: بكلمة “لاكوست” لم أعرف إن كان مخاطبي يعني الحذاء الرياضي من نوع “لاكوست” أم البنطلون من نفس الماركة (فهو يملك الاثنين)، أم إن كان قصده هو الوزغة – وهي التي نشبّهها في تونس برمز ‘اللاكوست’ أم التمساح؟
ب.”بإمكانك أن تحجز غرفة في الفندق السياحي عبر “ترافلتودو” و”تنيقوسي” أيضا”: كلمة “تنيقوسي” فعلٌ في اللغة الفرنسية يعني “فاوض، تُفاوض” قصَد به مخاطبي أنه فضلا عن إمكانية الحجز عبر الوكالة المذكورة بإمكاني أيضا “التفاوض” بشأن ثمن الإقامة. إلا أنّ خلوّ السياق من المفردات الفرنسية في الحوار بيني وبين مخاطبي جعل إقحام كلمة “تنيقوسي” بصفة مفاجئة عنصرا يخدم انعدام التواصل، بل سوء التفاهم. فبإمكان أيٍّ كان أن يفهم لفظة “تنيقوسي” على أنها اسم لوكالة سياحية أخرى فضلا عن الأولى التي سماها المتكلم، حيث إنّ تركيبة الجملة تسمح بذلك.
فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنّ الفرد في المجتمع التونسي قد يكون في طريقه إلى فقدان نظامه الفطري – الداخلي وغير المباشر- الذي يجعل منه ناطقا طبيعيا للغته.
بالنهاية، ورغم وضع لغوي متأزم إلا أنّ فئات مجتمعية عديدة تعتبر اللغة الفرنسية أو الانكليزية هدية مهداة لهم أو جائزة قد تُنالُ كنتيجة لمجهودات مكللة بالنجاح. تراهم يغضبون ممن ينقدون السياسة اللغوية التي تدافع عن هاتين اللغتين والتي تفعل ذلك دون إيلاء اللغة الوطنية أية أهمية تذكر، ويتذمرون حين يقترح الخبراء حلولا لإنقاذ اللغة الوطنية من الهلاك. بل إنّ تدخلاتهم في النقاشات وملاحظاتهم وتعاليقهم تنمّ على احتقارهم للغة العربية وكأنها جاءت من كوكب المريخ.
إنّ نظرة هؤلاء للعربية نظرة محنطة ومسطحة ومبتذلة ونمطية ومعقّدة ومتخلفة، مما يدلّ على أنّ الشاغل اللغوي الوطني ما يزال يعتبر إما في عداد الماورائيات وإما – في أفضل الحالات- ضمن قائمة النزوات والأهواء والملذات.أم هل أنّ هنالك خلطا خطيرا في المفاهيم وفي المقاربات قد أدى إلى اعتبار خاطئ مفاده أنّ العناية الواعية باللغات وباللغة الوطنية شأنٌ لاشعوريٌّ، مَثَلُها مَثَلُ عملية النطق بالكلام تحديدا؟ على أية حال ليس إجراء مثل إجراء تعليم اللغة الفرنسة لأطفال السابعة من العمر واللغة الانكليزية لأطفال الثامنة هو الذي سيؤسس لوعيٍ ألسني وطني.
*كاتب تونسي/” ميدل ايست أونلاين”

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق