الرئيسية / وجهات نظر / دورة استدراكية لامتحانات الديمقراطية في إسبانيا؟
ماريانو راخوي

دورة استدراكية لامتحانات الديمقراطية في إسبانيا؟

سواء نجح السنيور، ماريانو راخوي، زعيم الحزب الشعبي الإسباني متصدر الانتخابات التشريعية الأخيرة والتي قبلها، في تشكيل حكومة ائتلاف موسع أو ضيق، أو تمكن من الحكم  بمفرده بحكومة أقلية لن تقوم دون حصوله على التزام بغياب إرادي من طرف الأحزاب المنافسة، عن التصويت في جلسة منح الثقة بالبرلمان.

وكيفما كان الحال، فإن الولاية التشريعية المقبلة التي أفرزتها الانتخابات المعادة يوم 26 يونيو الماضي، ستكون قصيرة ولن تكمل زمنها القانوني المحدد في أربع سنوات طبقا للدستور.

سيقضي رئيس الحكومة جل وقته في جدل سياسي لمعالجة المشاكل والتداعيات الناتجة عن التحالف الاضطراري المحتمل مع الأضداد. سيضطر إذا رغب في البقاء على كرسي السلطة إلى وضع رقبته تحت رحمة  سيوف المتربصين به، علما أنهم ليسوا في وضع أفضل منه إذا ما أعاد لهم الكرة.

هذا الوضع السياسي الذي تعيشه إسبانيا  يؤكد، حسب محللين،  أن  النموذج الديمقراطي الذي خلف نظام  الديكتاتور “فرانثيسكو فرانكو” عام 1975 أوشك على نهايته واستوفى كل أغراضه وصلاحيته  وبالتالي فقد وجب استبداله، بعد أن عمر قرابة أربعة عقود، اعتبره كثيرون حينها  النموذج  المثالي للانتقال من  قفص الاستبداد السياسي إلى رحاب  الحرية والتعددية.

لم يعد نموذجا  يقبل سنوات مضافة  إلى العقود المنتهية.باتت الضغوط واضحة وقوية،عند كل استحقاق، تعبر عنها  الكتلة الانتخابية الجديدة. تكررت مرتين متتاليتين في ظرف ستة أشهر، حيث برزت  رغبة قوية في التخلص من  القطبية الثنائية  التي حكمت البلاد وتعويضها  بنظام تعددية حزبية متقدمة  تتمتع مكوناتها بحضور في البرلمان بمجلسيه وفي حكومة ستكون ائتلافية بالضرورة، مراعاة للتحولات العميقة الحاصلة في بنية  مجتمع  أصبح منقسما على نفسه موزعا  بين  دعاة الإبقاء على الثنائية الحزبية (كبار السن والمحافظون) يعتقدون أنها  مكنت البلاد من الاستقرار السياسي ومن السلاسة في البناء الداخلي  وتصفية أعوص المشاكل الموروثة عن نظام الطاغية “فرانكو”.

وتميل القوى الاجتماعية الصاعدة الممثلة أساسا في الشباب المتعلم،إلى التصويت على مرشحي الأحزاب الجديدة التي طفت بشكل مباغت  فوق المشهد الحزبي،  حاملة أفكارا وقيما تناهض الفساد والريع السياسي،  داعية  مثل المحتجين في  الربيع العربي، إلى تداول جديد على السلطة يفسح المجال لفاعلين من جيلهم  لذلك أربكت الحسابات القديمة وفسدت اللعبة  الانتخابية التي ألفتها الطبقة الحزبية  في إسبانيا لدرجة الظن  أنها قدر لا يمكن التمرد عليه.

وعلى افتراض أن الضرورة الدستورية ستجبر الناخبين الإسبان على العودة إلى صناديق الاقتراع للمرة الثالثة في أقل من سنة،  وهو احتمال وارد  تخشاه الأحزاب السياسية وتتجنب الحديث عنه لما قد يسببه لها  من أضرار سياسية  كما يمكن أن تحدث العودة أعطابا  في النظام الدستوري القائم إذا ما  غامرت  أغلبية الناخبين بالتصويت  على خليط من  أحزاب إقليمية  متطرفة متشبثة بنزعتها القومية الضيقة حد المطالبة بالانفصال، إلى جانب تنظيمات يسارية قريبة  من الفوضويين العدميين  ودعاة التخلص من النظام القائم وإحلال   سلطة جماهيرية شعبوية محله، يغذيها وضع اقتصادي متأزم.

تلك القوى  سواء الجديدة أو المحافظة تتفاعل حقيقة في المجتمع الإسباني، يصعب جمعها حاليا  تحت سقف مجلس تشريعي واحد،  فبالأحرى انسجامها في حكومة  مستندة على أغلبية مريحة. فما العمل إذن؟

حاولت كتابات وتحليلات تقديم إجابات والمساهمة باقتراحات عملية وخرائط طريق تخرج البلاد من نفق الأزمة الحكومية غير المسبوقة.اتفقت إجمالا على أمرين أساسيين: أولهما توجيه نقذ لاذع إلى الطبقة الحزبية واتهامها  بمعاكسة إرادة الناخبين وافتقادها  روح الوفاق والاحتكام إلى ابسط قواعد الديمقراطية، كونها، أي الطبقة، تصم آذانها عن نداءات المجتمع الراغب في تغيير نمط الحكم والقطع مع انفراد الحزبين الكبيرين (الشعبي والاشتراكي)  بالحكم ؛ ما داما قد فشلا في جمع أغلبية حول المكلف من قبل الملك فيليبي السادس تشكيل حكومة  ينتظرها  الرأي العام. لم يستطع  ذلك الزعيم الاشتراكي، فقد خذله اليساريون الجدد (بوديموس) مرتين.عارضوا التصويت لصالحه  متوهمين أن التخلص من عقبة  الاشتراكيين سيفسح لهم الطريق نحو قصر “لا منكلوا” ما دام مرشح  اليمين عاجزا عن جمع أغلبية برلمانية.

انتخابات الإعادة يوم 26 يونيو الماضي، طوحت  بأحلام “بوديموس” ما جعلهم ينكفئون على أنفسهم يتأملون في الآليات  التي تتحكم في  المجتمع الإسباني وتجعله يميل  نحو كتلة حزبية دون أخرى.

سيجرب  زعيم الحزب الشعبي ماريانو راخوي،  حظه.إنه  يسير بخطوات حذرة، في مساعيه وعروضه للحزبين الممكن التحالف معهما أي الاشتراكي وثيودادانوس. لكن “راخوي” لا يستبعد أي حل بما في ذلك فشله وتكليف زعيم الحزب الاشتراكي  الذي يليه في الترتيب ليعيد اللعبة الفاشلة ولتختتم  بالدعوة إلى  إجراء انتخابات ثالثة.

يعول المرشح الحالي لرئاسة الحكومة  على واقعية الحزبين المذكورين،  وعلى خوف  أحزاب  الممانعة من غضبة شعبية تحملها مسؤولية عرقلة تشكيل حكومة تحتاجها البلاد قبل أن تصاب مرافق الدولة بالشلل وهي مرتبطة وخاصة  المالية، بالاتحاد الأوروبي (التحكم في عجز الميزانية ومعدل النمو) واستقرار منطقة اليورو.

أي دور للملك وقد طالت الأزمة؟ لا يبدو أن، فيليبي السادس،  متحمس للتحكيم والوساطة لإقناع  الفاعلين الأساسيين، بصيغة حكومة انتقالية توافقية تسهر على تهييئ الإصلاحات المؤسساتية التي يتطلبها استمرار الدولة الإسبانية موحدة وقوية وقادرة على مقاومة النزعات الإقليمية المطالبة بالانفصال، كما هو الوضع في إقليم “كاتالونيا” التي  صادق  برلمانها المحلي على اتخاذ الخطوات الانفصالية من جانب واحد، فالتجأت الحكومة إلى المحكمة الدستورية لإبطال مفعول  القرارات الانفرادية واعتبار البرلمان المحلي مؤسسة خارجة عن القانون وضد الشرعية الدستورية.

حرص العاهل الإسباني على النأي بنفسه عن وضع سياسي محتقن وغير صحي، فالدستور لا يمنحه  صلاحيات معينة في هذا المجال  كما أن المزاج السياسي العام لا يسهل   له ممارسة دور ينهي الانسداد  السياسي.

هل بقي حل احتياطي لم يجربه الإسبان لتحقيق الانفراج؟ دستوريا لا توجد آلية أخرى غير الاحتكام  إلى صناديق الاقتراع  في دورة استدراكية، أو اتفاق الأحزاب الوازنة في البرلمان، على حكومة  قد لا تختلف كثيرا عن حكومة تصريف الأعمال، عمرها محدود تطبق  برنامج الحد الأدنى، وفي المقدمة إجراء تعديل دستوري يؤسس لنظام حكم يستوعب أكثر من حزبين في الحكومة،  بموازاة  إعادة النظر في البنيات المؤسسية للجهات والأقاليم، بالتوجه نحو تمكينها من صلاحيات أكبر، تخفف عنها ضغط الحكومة المركزية  لتخطو الحكومات المستقلة الحالية  نحو نظام الجهوية الموسعة  يحاذي  الفيدرالية،  بدل الانفصال.

زعيم الحزب الشعبي، يصارع الآن وحيدا في أجواء مفرطة الحرارة، إن في السياسة أو أحوال الطقس. إذا تمكن من إقناع الاشتراكيين في غضون الشهر الجاري، بالغياب عن التصويت والاكتفاء بحزب “ثيودادانوس” شريكا في الحكومة، فسيعتبره الإسبان “المنقذ والمخلص” فليكثروا من  الدعوات له..آمين