جذور الأزمة الليبية وآفاق التسوية السياسية

مُقدمة

بقدر ما كانت الثورة الليبية مفاجأة سارة لكل من كان يحلم بالتخلص من قمع وفساد وتسلط نظام القذافي الذي حكم ليبيا لأكثر من أربعين عاماً، بقدر ما كان هناك الكثير من المخرجات السلبية للإطاحة بنظام القذافي. ويرجع ذلك لطبيعة هيكل الدولة، وطبيعة النظام السياسي الذي ابتدعه القذافي، ونتيجة أيضاً لسنوات من القمع السياسي، وتجريف قوى المعارضة وإقصاء النخب السياسية والاجتماعية عن المشهد السياسي خلال فترة حكم القذافي، علاوة على الطريقة المؤسفة التي تدخل بها حلف الناتو دون أدنى تفكير في وضع استراتيجية للخروج منها.
وكما هو الحال في كل الدول التي شهدت انتفاضات سياسية أو ثورات (فالمُسميات يُحيط بها الكثير من الجدل) في العالم العربي خلال العام 2011، لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، وتطور التظاهر السلمي في الكثير من المناطق إلى عنف متبادل بين النظام والمتظاهرين، أو إلى تدخل دولي أو إقليمي، أو إلى صراع سياسي بين نُخب ما بعد الثورة، أو إلى حروب أهلية بين تشكيلات مُسلحة وقوى أخرى نظامية أو غير نظامية. ولعل النقطة الأكثر أهمية في هذا السياق هو معرفة أن الثورات بشكل عام وعلى مدار التاريخ تختلف مُخرجاتها عن أصولها، وتؤول في العادة إلى نتائج تتحكم بها الكثير من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. ولعل التجارب التاريخية في هذا الشأن توضح أن العديد من الثورات الاجتماعية والسياسية التي حدثت لم تتمكن من التخلص من الأسباب التي قامت من أجلها كغياب المساواة أو القضاء على الاستغلال الطبقي أو القمع السياسي، فالثورات الفرنسية في 1789، أو المكسيكية في 1910، أو الروسية في 1917، أو الكوبية في 1958 تمكنت من تقليل حجم عدم المساواة في مجتمعاتها على المدى القصير، إلا أنها لم تتمكن على المدى الطويل من الحفاظ على مُكتسابتها . وقد أثبتت العديد من الدراسات في علم الثورات أنه في حين أن مُخرجات الثورة قد تكون واضحة لنُخب ما قبل الثورة، ولكنها في العادة تكون مبهمة وغير معلومة للسواد الأعظم من الشعوب . ومما لا شك فيه، هناك الكثير من التشابه بين تجارب الربيع العربي المختلفة في كل من مصر، وتونس، والبحرين، واليمن، وسوريا ، وليبيا، ومفهوم “مُخرجات الثورة” .
وللأسف الشديد، هناك الكثير من النقص النظري في التحليل المقارن لفكرة “مُخرجات الثورة”، فبالرغم من وجود أجيال كثيرة من المنظرين حول مفهوم “أصول الثورة” بدءاً من كارل ماركس وحتى التحليل الهيكلي التي قامت به ثيدا سكوكبول، إلا أننا لن نجد جيلاً واحداً من المنظرين لمفهوم مُخرجات الثورة . وبرغم من ضآلة الإسهام النظري في هذا الشأن، إلا أ،ه تم الاتفاق على مجموعة من العوامل التي من شأنها التأثير على مستقبل الثورات، وهي عوامل تتعلق بالمجال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي-الثقافي، وقوة الدولة . وبالبحث في تلك العوامل نجد أن أكثرها شيوعاً وفاعلية في التأثير على مستقبل الثورات هي أولاً: نمط الثورة سواء كانت اجتماعية أو سياسية ، وثانياً: موقف الجيوش أو القوى النظامية المُسلحة أثناء الثورة وبعدها، وثالثاً: موقف المجتمع الدولي وتدخله من عدمه في الثورة، ورابعاً وأخيراً، أيدولوجية وطبيعة النخب السياسية التي تقوم بفرزها العملية الثورية.
وبالقياس على الربيع العربي، نرى أن حجم الخلاف بين القوى الثورية في مرحلة ما بعد إسقاط النظام كان أحد أهم العوامل السياسية والاجتماعية التي كان لها تأثيراً مباشراً على مُخرجات الثورات المختلفة. ففي الحالة المصرية على سبيل المثال، كان الخلاف بين التيار المدني مُمثلاً في القوى الليبرالية واليسارية، والتيار الإسلامي مُمثلاً بشكل أساسي في جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي أحد أهم العوامل التي غيرت من مسار الثورة المصرية بدءاً من استفتاء التعديلات الدستورية في مارس 2011، مروراً بانتخابات الرئاسة في 2012، وانتهاءاً بإسقاط حُكم محمد مرسي في 30\6\2013. ولا يختلف الوضع كثيراً في الحالة الليبية عن الحالة المصرية فيما يتعلق بهذا الشأن، فإن كانت الطبيعة المؤسسية للدولة والنظام السياسي في مصر لها دور في حدوث بعض الاختلاف، إلا أن الانقسام بين التيار الإسلامي والتيار المدني أو غير الديني يظل عاملاً مؤثراً في بلورة مُخرجات ثورات الربيع العربي بشكل عام. ولكن تظل الحالة الليبية تتمتع بنوعاً من الخصوصية في هذا الشأن نظراً لتطور هذا الانقسام إلى صراع مسلح بين نُخب ما بعد الثورة.

الحوار السياسي في ليبيا: عن الأزمة ومرحلة البدء

انطلق الحوار السياسي بين الأطراف المتنازعة في ليبيا بعد ظهور أزمة السيادة المتعددة، ووجود أكثر من كيان يدعي الشرعية، ويرى أنه الممثل الأوحد للدولة الليبية، وهو ما حدث بعد صدور حكم المحكمة العليا في طرابلس والذي قضى بحل مجلس النواب المنتخب في يوليو 2014 والمنعقد في مدينة طبرق. وكانت النتيجة هي إعادة انعقاد المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته منذ مارس 2014 في طرابلس، وفي 25 أغسطس 2014 أصدر المؤتمر الوطني القرار بتعيين عمر الحاسي رئيساً لحكومة الانقاذ في ظل وجود حكومة أخرى في طبرق بقيادة عبد الله الثني المُكلف من قبل مجلس النواب ، بالرغم من كونها المرة الأولى التي تشهد فيها ليبيا أكثر من حكومة واحدة منذ سقوط نظام معمر القذافي في أغسطس 2011، إلا أنه من الضروري ملاحظة أن الحكومات التي سبقت حالة الانشقاق الصريح هذه لم تكن حكومات لها الكثير من السيادة على أرض الواقع.
ولا جدال أن نمط الثورة الذي شهدته ليبيا أفضى إلى واقع سياسي يصعُب السيطرة عليه، خاصة في ظل حالة الانقسام الشديد ما بين النُخب الثورية، والانتشار المُخيف للسلاح، وغياب أي مفهوم لمؤسسة أمنية قادرة على لعب دور قوة جبرية شرعية، وضعف هيكل الدولة بشكل عام نتيجة لنظام الجماهيرية الذي ابتدعه القذافي وتفكيكه للمؤسسة العسكرية بشكل غير مفهوم بعد حرب تشاد واعتماده على قوى غير نظامية لسنوات طويلة مُمثلة في الكتائب. كما أن الضعف النسبي للحكومات المتعاقبة على ليبيا بعد سقوط نظام القذافي وعدم امتلاكها لذراع عسكري وطني، وفشلها المتكرر في جمع السلاح في ظل خلافات سياسية عاصفة أدى إلى الإعلاء من سطوة الميليشيات، والتشكيلات العسكرية المبنية على اُسس إيدولوجية، أو قبلية أو جغرافية أو جهوية. ونتج عن هذه الحالة ظهور هيكل غير رسمي من التفاعل بين الدولة مُمثله في الحكومة (وخاصة في وقت ولاية حكومة علي زيدان) والميليشيات، والتشكيلات العسكرية، بل والأفراد في بعض الأحيان . ولعل خير دليل على هذا الهيكل غير الرسمي سيطرة المكتب السياسي لإقليم برقة على المنشآت النفطية في ليبيا تحت قيادة رئيسه إبراهيم الجضران، وفي واقعة شهيرة اقدم الجضران على استجلاب باخرة إلى ميناء البريقة لتغادر محملة بالنفط الليبي دون أن تمر الكمية على العدادات خارجة عن سلطة الدولة والبنك المركزي ودون صد من القوات التابعة للحكومة . وبالرغم من قيام المؤتمر الوطني بإقالة علي زيدان رئيس الحكومة آنذاك بعد حدوث هذه الواقعة بساعات قليلة، واستبداله بعبد الله الثني والذي عمل تحت ضغط من الميليشيات هو الآخر، إلا أن واقعة ميناء البريقة وبيع النفط الليبي لحساب أفراد بعينهم أو منظمات أو ميليشيات لم تكن الواقعة الوحيدة التي تجلى فيها حجم الفساد المالي في ليبيا وعدم قدرة الحكومة على السيطرة على مفاصل الدولة المختلفة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الخدمية.
والهدف مما سبق هو توضيح أن حالة الخلاف السياسي الذي تشهده ليبيا الآن، ومرحلة السيادة المتعددة الموجودة بين طبرق وطرابلس لم تكن فقط نتيجة لظهور كيانان متصارعان يدعي كل منهم الشرعية، بل هي حالة سياسية مُعقدة بدأت إرهاصاتها في فترة ولاية المؤتمر الوطني، والذي عانى من انشقاقات سياسية حادة بين كتله، مما أفضى إلى خلافات سياسية تم تعزيزها عسكرياً من خلال التشكيلات المُسلحة المُختلفة التي كانت مبنية على إنتماءات سياسية في المقام الأول. ومن غير الممكن الإسهاب في الحديث عن الحوار السياسي الليبي وفرصه، وآفاقه، وتحدياته دون البحث في جذور المشكلة التي كانت سبباً فيما آلت إليه الأوضاع في ليبيا. وفي الحقيقة، لا يعد الوضع الحالي في ليبيا نتاجا لمشكلة واحدة من الممكن تحليلها بمعزل عن مجموعة العوامل التي تُعد سبباً مباشراً لحالة الانقسام السياسي. فإذا ما بحثنا عن مرحلة انطلاق جذرية للحالة المؤسفة التي تمر بها ليبيا الآن، والفرص القليلة المتاحة أمام الحوار السياسي خاصة في ظل الأداء الهزيل لبرناردينو ليون مبعوث الأمين للأمم المتحدة في ليبيا، فإن هذه المرحلة تبدأ مع ولاية المؤتمر الوطني العام بعد انتخابه في يوليو 2012 وتسلمه مقاليد الأمور من المجلس الوطني الانتقالي. والنظر لمرحلة المؤتمر الوطني العام كنقطة انطلاق للصراع الدائر حالياً لها أكثر من سبب، فلم يكن المؤتمر الوطني هو المسئول عن الانتشار المخيف للسلاح في ليبيا، ولم يكن هو المسئول عن ظهور عدد كبير من الميليشيات داخل المشهد الليبي، كما لم يكن بالتأكيد مسئولا عن ضعف قدرات مؤسسة الدولة في ليبيا، فهذه كلها أخطاء وأزمات خلقها نظام معمر القذافي على مر سنوات، أو خلقتها الأوضاع السياسية والعسكرية التي أحاطت بصراع القوى الثورية في ليبيا مع نظام معمر القذافي ومؤيديه حتى لحظة إسقاطه. ولكن من المؤكد أن حالة الاستقطاب السياسي الشديد، والربط بين التكتلات السياسية والتشكيلات العسكرية، وخلق هيكل التفاعل بين الدولة والقوى المسلحة غير النظامية، والتوسع في خلق ميليشيات وتشكيلات عسكرية جديدة على أسس قبلية وجهوية، كلها أخطاء جسيمة أخذت تتشكل وتتبلور في ولاية المؤتمر الوطني العام في 2012.
وبالرغم من بدء المؤتمر الوطني عمله بصراعات وخلافات أحاطت بتشكيل الحكومة، لم يتوقف الصراع السياسي بين كُتل المؤتمر الوطني عند أزمة تشكيل الحكومة، ولكنه امتد بعد ذلك وفور شروع حكومة علي زيدان في أداء مهامها إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، وما يُعد سبباً رئيسياً في الأزمة السياسية والعسكرية التي تشهدها ليبيا حالياً. فقد كان من أولويات هذه الحكومة كما أعلنت هي جمع السلاح من الثوار ووضعه تحت تصرف الدولة، وهي فكرة وجيهة في حد ذاتها وتصرف لابد منه في تلك المرحلة لتمكين الدولة من ممارسة سيادة سياسية حقيقية من خلال احتكار القوة الجبرية المُسلحة من قبل مؤسسات الدولة بشكل شرعي، ولكن باءت محاولات الحكومة في هذا الشأن بالفشل الذريع، ورفض أغلب الثوار تسليم أسلحتهم وبقت الغالبية العُظمى منهم داخل المعسكرات للحفاظ على ترسانة الأسلحة الثقيلة التي ورثوها عن نظام القذافي أثناء السجال العسكري بينهم وبين قوات القذافي. ولم تكن المشكلة في تمسك الثوار بأسلحتهم فقط، بل كانت أيضاً في الطريقة غير العملية التي شرعت بها الحكومة في تنفيذ خطة جمع السلاح دون طرح بدائل أمنية عملية للثوار الذين بات السلاح هو العامل الأوحد الباعث على الأمن في حياتهم اليومية، أو طرح بدائل اقتصادية واجتماعية قادرة على احتواء جيش المقاتلين الذي أفرزته حرب التحرير داخل مؤسسات الدولة واستخدامه في خلق نخبة أمنية وعسكرية مبنية على انتماءات وطنية واضحة. وفي نفس الوقت، لم يكن الصراع السياسي الدائر بعنف داخل المؤتمر الوطني مبشراً للشعب الليبي بنهاية الحالة الأمنية المتردية في ظل غياب سلطة مركزية، بل على النقيض من ذلك، كان الأداء العام داخل المؤتمر الوطني وحجم التناحر السياسي الذي بات جلياً للكل خير نذير على أن ليبيا في طريقها لصراع سياسي عنيف من المُحتمل جداً أن يتحول إلى صراع عسكري على أرضيات سياسية وجغرافية وقبلية وأيدولوجية.
وفي ظل الصراع السياسي العنيف داخل المؤتمر الوطني، وفشل خطة جمع السلاح، بدأت الحكومة في ذات الوقت في بناء الأجهزة الأمنية، ولكنها شرعت في ذلك وفقاً لاستراتيجية خاطئة لا تزال إلى الآن تلقي بظلالها السلبية على مُجريات الأمور داخل ليبيا. فمن المهم أولاً إدراك أن الحكومة كانت مُشكلة من التيارين الرئيسيين داخل المؤتمر الوطني، تيار تحالف القوى الوطنية ذو التوجه الليبرالي، والتيار الإسلامي. وكانت الجهة المُناط بها تشكيل الأجهزة الأمنية هي وزارة الدفاع، والتي لم تكن مُستقلة تماماً عن صراع النفوذ السياسي بدورها، بل كان يتحكم فيها جناحان رئيسيان، وزير الدفاع أسامة الجويلي من تحالف القوى الوطنية، وهو من مدينة الزنتان، ووكيل الوزارة خالد الشريف المعروف بانتماؤه للتيار الإسلامي، ومن ثم لم تكن مرحلة بناء وتجهيز وإعداد الأجهزة الأمنية بعيدة عن الصراع السياسي الدائر بين كُتل المؤتمر الوطني، بل كانت جزءاً لا يتجزأ منه وأحد أدوات ترسيخه. وفي إطار تقاسم الأدوار، أشرف وزير الدفاع على تشكيل ما يُسمى بقوات حرس الحدود وهي قوات القعقاع، والصواعق، والمدني، وأغلب عناصرها وقادتها من الزنتان، في حين عمل وكيل الوزارة على إعادة تأهيل وهيكلة قوات الدروع التي تشكلت في عهد حكومة عبد الرحيم الكيب أثناء ولاية المجلس الوطني الانتقالي، والتي تعمل تحت إمرة رئيس الأركان الذي يأتمر بدوره بأوامر وكيل الوزارة. وقوات الدروع تتشكل من الثوار الذين قاتلوا في الجبهات ضد القذافي، ويغلب على تشكيلها خط وطني-إسلامي مؤمن بمبادئ ثورة السابع عشر من فبراير. ومن المهم أن نلحظ هنا أن هذه التشكيلات العسكرية قد غلب على تأسيسها عوامل الانتماءات الفكرية والسياسية والجغرافية، في الوقت الذي كانت فيه البلاد في حاجة إلى نُخبة أمنية وعسكرية بعقيدة وطنية بعيداً عن التوجهات السياسية والفكرية والانتماءات الجغرافية والقبلية. وبدأت منذ تلك اللحظة مرحلة خطيرة في سياق الصراع السياسي الليبي وهي مرحلة ربط القرار السياسي بالسجال العسكري، بمعنى أنه لم تعد هناك مساحة لأي سلطة شرعية سواء كانت الحكومة أو المؤتمر الوطني العام المُنتخب لممارسة سيادة حقيقية دون ذراع عسكري مُستقل يعمل خارج هيكل الدولة وعلى أرضية غير وطنية بالأساس.
ومن المهم ملاحظة أن الصراع الدائر حالياً في ليبيا ليس صراعاً بين سلطة شرعية ومجموعة من الجماعات الإرهابية، وهو الواقع الذي يحاول الإعلام المُعادي للتيارات الإسلامية بشكل عام أن يرسمه عن الوضع في ليبيا، كما أن الصراع أيضاً ليس صراعاً بين تيارات ثورية تحاول حماية البلاد من غزو أنصار معمر القذافي الذين يحاولون العودة للمشهد السياسي لكي يعيثون في الأرض فساداً، وهو الواقع الذي يحاول الإعلام المناصر للتيارات الإسلامية الترويج له. فالمُعطيات على أرض الواقع تقول أن الخلاف في ليبيا خلافاً سياسياً في الأساس، قامت بتقويته وترسيخه مجموعة من الأخطاء والتحركات والقرارات الخاطئة التي لم يكن عليها أي رقيب، ولكنه يظل خلافاً بين تيارات سياسية مُعسكرة تختلف في منطلقاتها ومواقفها الفكرية والسياسية، وتختلف أيضاً في رؤيتها للمستقبل الليبي وفي مفهومها عن الأولويات الوطنية، ولكنه ليس خلافاً بين جانب صالح وآخر فاسد، ليس خلافاً بين قوى التطرف والإرهاب وقوى الحداثة والديمقراطية، وهو أيضاً ليس خلافاً بين وطنيين وخونة، بل هو خلاف تتحمل مسئوليته كل الأطراف المختلفة في المشهد السياسي الليبي على مدار السنوات الأربع الماضية بالتساوي.

جولات الحوار السياسي الليبي

حوار غدامس 1 (سبتمبر 2014)

عُقدت الجولة الأولى من الحوار السياسي الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة من خلال مبعوثها برناردينو ليون في 29 سبتمبر 2014 بمدينة غدامس الليبية على حدود الجزائر، وهي الجولة التي باتت معروفة باسم “غدامس 1”. وقد أحاطت بهذه الجولة العديد من المشكلات على كل المستويات، ولكن إصرار الأمم المتحدة على انعقاد الجولة بأي ثمن كان دافعاً أقوى من دوافع التساؤل عن الحجم الحقيقي للتغيير أو التأثير السياسي في مسار الأزمة الليبية المُتوقع من هذه الجولة.
وبالرغم من إقامة الحوار في سبتمبر، أي قبل صدور حكم المحكمة العُليا في طرابلس بعدم دستورية قانون الانتخابات ومن ثم حل مجلس النواب بطبرق وإعلان المؤتمر الوطني العام إعادة إنعقاده، إلا أن ليون تجاهل الطرف الإسلامي في النزاع، بالرغم من وجود ميليشيات فجر ليبيا في هذا التوقيت، وقام مبعوث الأمم المتحدة بإقصاء عدد من القوى السياسية داخل المؤتمر الوطني العام الذي كان مُنحلاً في ذلك الوقت وعدد من القوى العسكرية التي لم يكن من الممكن تجاهل حجم قدراتها ومدى تأثير تحركاتها العسكرية والعملياتية على صناعة القرار السياسي داخل ليبيا. وكان نتاج هذه الرؤية القاصرة انعقاد جلسة حوار بين وجهين لعملة واحدة، حيث جاءت جولة الحوار “غدامس 1” لتجمع بين بعض الأعضاء في مجلس النواب المُنعقد في طبرق، وبعض أعضاء ذات المجلس ولكن ممن اتخذوا قراراً بمقاطعة جلساته اعتراضاً على انعقاد فعالياتها في طبرق وعدم الالتزام بإجراءات التسليم والتسلم بين المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب. وبمعنى آخر، كان الحوار مبنياً من الأساس علي التحاور مع الجهة التي لديها شرعية، حتى ولو كانت هذه الشرعية منقوصة، أو مؤقتة، أو غير فاعلة على أرض الواقع، وفي نفس الوقت تجاهل الحوار الأطراف الأخرى في الصراع والتي كان لديها ما يكفي من قوة عسكرية وثقل سياسي لإفشال مُخرجات أي حوار سياسي لا يتضمن مُمثليها على طاولته.
وفي واقع الأمر، كان الإصرار على الذهاب لجولة حوار سياسي دون مراعاة أو النظر إلى مستوى التطور في الصراع الدائر خطًأ جسيما بدون شك، خاصة مع تجاهل الحوار للفاعلين الجُدد في المشهد الليبي، والذين برهنت الأحداث على تأثيرهم في صناعة القرار السياسي والعسكري داخل ليبيا. ويقودنا ذلك للرجوع لعامل تدخل المجتمع الدولي وأثره على مُخرجات الثورات، فبعد التدخل العسكري في ليبيا في 2011 دون استراتيجية للخروج، استمر المجتمع الدولي من خلال آليات التدخل السياسي في سوء قراءة الواقع السياسي الليبي، وقام بعقد جلسة حوار أضفت شرعية على طرف وتجاهلت طرف آخر بالرغم من أن الطرفين لا يختلفان كثيراً عن بعضهما البعض في ربط الأداء السياسي بالسجال العسكري، وفي امتلاك أذرع عسكرية غير مؤسسية لترسيخ شرعيتهم السياسية.

حوار جنيف (يناير 2015)

عُقدت جلسات حوار جنيف في 14 و15 يناير 2015، وقد بدا من مرحلة التحضير لهذا الحوار أن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا قد بدأت تتفهم طبيعة الواقع السياسي بصورة أفضل من تلك التي كانت عليها قبل حوار غدامس 1. فكانت الأمم المتحدة في هذه المرة واعية بضرورة إشراك أكبر عدد ممكن من الأطراف المتنازعة، بل ولجأت أيضاً إلى توسيع دائرة الحوار بحيث تشمل قيادات مدنية واجتماعية للمساعدة في التوصل لاتفاق توافقي حول الأوضاع في ليبيا، كما أعلنت الأمم المتحدة أن الحوار سيكون متعدد المسارات بحيث يشمل كل القضايا المؤثرة في الواقع السياسي والاجتماعي الليبي. وأعلنت أيضاً المنظمة الأممية سعي النقاشات في جنيف إلى وضع الترتيبات الأمنية اللازمة لتحقيق وقف كامل لأعمال القتال المسلح التي أودت بحياة العديد من المدنيين وهجّرت مئات الآلاف من ديارهم وأحدثت أضراراً جسيمة في البنية التحتية واقتصاد البلاد. علاوة على ذلك، ستهدف المباحثات إلى ضمان انسحاب مرحلي لجميع الجماعات المسلحة من المدن والبلدات الرئيسية، بما في ذلك طرابلس، وتمكين الدولة من بسط سلطتها على المؤسسات الحكومية والمنشآت الاستراتيجية وغيرها من المرافق الحيوية.
وكما كان متوقعاً، لم يأت حوار جنيف بأية نتائج، فبادئ ذي بدء، تخلف المؤتمر الوطني ومُمثليه عن حضور جلسة حوار جنيف، وأعلن المؤتمر أن المبعوث الأممي في ليبيا لم ينسق معه بالشكل الكافي بخصوص أجندة الحوار السياسي المُقام في جنيف، كما أن المؤتمر أبدى اعتراضه على مبدأ إقامة الحوار خارج ليبيا ومن ثم رفض المشاركة فيه.
وفي ذات الوقت، كان المكتب الإعلامي لميليشيات فجر ليبيا يُعلن عن عدم قبوله بجولة حوار جنيف، وعدم التزامه بنتائجها أياً كانت، وأعلن المكتب الإعلامي نصاً أنه سيضرب بنتائج الحوار عرض الحائط. واعتبر بيان نُشر على الصفحة الرسمية لـ”فجر ليبيا”، أنه كان على رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، برناردينيو ليون، أن يعلن مسبقا عن جدول أعمال الحوار وبنوده والمعايير التي اختار على ضوئها المشاركين فيه.
ومثلما انتهت جولة حوار غدامس 1 إلى لا شيء سوى ضرورة عقد جلسة جديدة مع التنسيق بين الأطراف المتنازعة بشكل أكبر، انتهت ايضاً جولة حوار جنيف إلى نفس النتيجة، ولكن ليون صرح أنه سوف يعمل على تقريب وجهات النظر وعقد جلسة حوار جديدة داخل ليبيا هذه المرة، ومن ثم جاءت حلقة جديدة من حلقات الحوار السياسي الليبي تحت رعاية الأمم المتحدة، وهي ما تُعرف إعلامياً ب “غدامس 2”.

حوار غدامس 2 (فبراير 2015)

اكتملت الحلقة الثالثة من حلقات الحوار السياسي الليبي بانعقاد حوار غدامس 2 في ليبيا في 14 فبراير 2015، وكانت الجولة هى الأسوأ بالمقارنة بالجولتان اللتان سبقاها، حيث أدت الخلافات السياسية والانشقاقات فيما بين الأطراف المختلفة، والتطورات العسكرية على الأرض إلى بلورة كل طرف لمجموعة من المطالب والاشتراطات التي لا يمكن أن يقبل بها الطرف الآخر، وهو ما كان من شأنه إنهاء الحوار إلى لا شيء دون أية نتائج ملموسة أو إيجابية تساعد في السعي لمصالحة وطنية أو لوقف إطلاق النار المتبادل بين طرفي الحوار. ودخل مبعوث الأمم المتحدة هذا الحوار ولديه ما يشبه خارطة الطريق لما ينتوي الخروج به من الحوار، وكان على رأس هذه الخارطة تشكيل حكومة وحدة وطنية، وانسحاب التشكيلات المسلحة من المدن والمطارات، ووقف كافة أشكال العنف. وقد أعلن المبعوث الأممي أنه بالتوازي مع هذه الأهداف، ستعقد جولات أخرى للحوار تشارك فيها المجموعات المسلحة، والقبائل، والأحزاب السياسية، وهذا بالطبع بعد إقصاء تنظيم أنصار الشريعة من هذه المحادثات نظراً لتصنيفه من قبل مجلس الأمن الدولي كتنظيم إرهابي.
ولعل التغير الوحيد الذي حدث بعد حوار غدامس 2 كان تعميق حجم الانشقاق في صف كل كيان من الكيانين الرئيسيين في الحوار، وظهور خلافات جديدة داخل كل منهما بين تيار يؤمن بضرورة استكمال الحوار، وآخر يرى أن الحل لن يكون سوى بالحسم العسكري. وفي ظل هذا الوضع المؤسف، بدأت بعثة الأمم المتحدة في التحضير لحلقة جديدة من حلقات الحوار السياسي الليبي، وكانت الجولة هذه المرة في الرباط في مارس 2015.

حوار الرباط (مارس 2015)

اكتملت الحلقة الرابعة من سلسلة جولات الحوار السياسي الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة بانعقاد جلسة الحوار في مدينة الرباط المغربية يومي 5 و 6 مارس 2015. وكانت هذه الجولة على وجه الخصوص مختلفة بعض الشيء عن الجولات الأخرى التي سبقتها لأكثر من سبب. فقد جاءت هذه الجولة بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بقوة داخل ليبيا، وتنفيذه لعملية ذبح الأقباط المصريين على ساحل سرت، وهي العملية التي شهدت في أعقابها تدخلاً علنياً للقوات المسلحة المصرية داخل ليبيا للمرة الأولي منذ اندلاع الثورة الليبية في 2011. ومما لا شك فيه أن التدخل المصري حمل العديد من الدلالات والرسائل السياسية إقليمياً ودولياً، فكانت الضربة الجوية المصرية علي معاقل داعش في ليبيا بمثابة رسالة للأطراف المختلفة المهتمة بالشأن الليبي، فمن ناحية، لن تقف مصر مكتوفة الأيدي تجاه أي اعتداء علي رعاياها وأمنها القومي، وهي رسالة للتنظيمات غير الشرعية في ليبيا والقوى التي تدعمها، سواء داخل ليبيا أو خارجها، وهي الرسالة التي تأكدت بعد تصريحات الجيش الوطني الليبي التي حرصت على توضيح حجم التنسيق بين القوات المسلحة المصرية وبين القوات المسلحة في ليبيا، ونفي فكرة التعدي على سيادة الدولة والتأكيد علي استمرار التنسيق الأمني والعسكري مع مصر مستقبلا.
وقد فرض هذا التطور واقعاً جديداً داخل المشهد السياسي والعسكري، فمن ناحية بات هناك تهديداً أمنياً جديداً يواجه طرفي الحوار على السواء يتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية، ومن ناحية أخرى ظهر مبدأ التدخل العسكري الأجنبي بوضوح بعد الرد المصري السريع على ذبح داعش للأقباط المصريين، كما ظهر أيضاً الدعم العلني وغير المشكوك فيه من مصر بقدراتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية للجيش الوطني الليبي، ولحكومة عبد الله الثني ومن ثم لمجلس النواب في طبرق.
وثانياً، جاءت هذه الجولة بأجندة واضحة لنقاط الحوار التي سوف يكون لها الأولوية في النقاش، فقد جاء على لسان بعض الأطراف المشاركة في الحوار أن أهم النقاط التي سيتم التطرق إليها هى التوافق حول عملية وقف إطلاق النار بين طرفي الحوار، ثم التوافق على شخصية لقيادة حكومة الوحدة الوطنية أو الحكومة التوافقية التي تسعى الأمم المتحدة لتشكيلها، ومحاولة التوصل لوزراء من الممكن أن يمثلوا مختلف الأطراف في هذه الحكومة.
ولكن بالرغم من التطوارت السياسية والعسكرية والأمنية التي سبقت جولة حوار الرباط، وبالرغم من وجود أجندة واضحة للحوار، وحضور كلا طرفي النزاع هذه الجولة، إلا أن حوار الرباط لم ينته لأية قرارات، ولم يتم الاتفاق على أي من النقاط التي تم طرحها خلال جولة الحوار، وغادرت الأطراف المشاركة في الحوار مدينة الرباط للمزيد من التشاور مع الكيانات التي يمثلونها في كل من طبرق وطرابلس على أن تعود الأطراف لطاولة الحوار مرة أخرى بعد أسبوع.
وفي طريقة إنهاء جولة حوار الرباط عدد من الدلالات التي من المهم عدم تجاهلها، فأولاً، هناك تدخلات إقليمية لا شك فيها في سياق الحوار من خلال رجوع الأطراف المتحاورة لعدد من الفاعلين الإقليميين كمصر، وتونس، والجزائر، والإمارات، وهو ما من شأنه زيادة صعوبة التوصل لاتفاق سياسي بين الأطراف المشاركة في الحوار نظراً لوجود تدخلات خارجية من أطراف غير متواجدة على طاولة المفاوضات، ولكنها بلا شك مؤثرة في عملية صناعة التوافق السياسي بين طرفي النزاع. ثانياً، يتضح يوماً بعد يوم حجم التباين والانشقاق داخل كل كيان من الكيانين المتحاورين حول عملية الحوار السياسي ككل. ثالثاً، من الواضح أن هناك حالة من عدم التوافق بين الكيانات السياسية والأذرع العسكرية التي تُمثلها، ففي حين تُعلن الكيانات السياسية استعدادها لاستئناف الحوار، لا تعكس التحركات العسكرية الميدانية على أرض الواقع هذه التصريحات، ولعل عدم توقف السجال العسكري بين الطرفان ليوم واحد سواء أثناء انعقاد جلسات الحوار أو في الفترات التي تبعتها خير دليل على ذلك.
ومثلما لم تُسفر الجولات السابقة عن نتائج إيجابية، لم تُسفر جولة الحوار في الرباط عن نتائج إيجابية هي الأخرى، وتوجهت بعض الأحزاب السياسية الليبية للجزائر لعقد جلسة حوار هناك، ثم أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا عن حلقة جديدة في حلقات الحوار السياسي الليبي في مدينة الصخيرات في المغرب.

حوار الصخيرات (أبريل 2015)

عُقدت الحلقة الأخيرة من الحوار السياسي الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات في المغرب في 15 أبريل 2015، وهي الجولة الأخيرة التي تم عقدها حتى توقيت كتابة هذه الدراسة في الأسبوع الأول من مايو من نفس العام.
وكان من المفترض أن تتمحور المناقشات في هذه الجولة الحوارية حول المسودة التي تقدمت بها الأمم المتحدة، ولكن التطورات الميدانية داخل ليبيا جعلت من إمكانية صناعة توافق سياسي مسألة في غاية الصعوبة، فقبل انعقاد الحوار قامت ميليشيات فجر ليبيا بحملة اعتقالات تعسفية لمؤيدي شرعية مجلس النواب بطرابلس، كما تعرضت الطائرة التي تقل أعضاء المؤتمر الوطني العام المشاركون في الحوار للقصف أثناء إقلاعها من مطار معيتيقة في طريقها إلى المغرب لحضور جولة الحوار. ومما لا شك فيه، فهذه التطورات خلقت مجالاً مُعبأ بالتوتر داخل أروقة الحوار، ولم يتمكن أحد الطرفين من التوصل لتوافق متبادل أو من تقديم تنازلات سياسية جديدة من شأنها العمل على خلق بيئة صالحة لتفعيل مسودة اتفاقية التسوية السياسية التي صاغتها الأمم المتحدة. وبالرغم من تجمد الحوار على مجموعة محددة من النقاط التي ثار حولها الكثير من الخلاف، ولم يشهد موقف أحد الأطراف منها أي تقدم على مدار جولات الحوار المختلفة، وهي النقاط المتعلقة بالصلاحية التشريعية والرقابية لكل كيان من الكيانين المتنازعين، والأخذ بحكم المحكمة العُليا في طرابلس ومن ثم النيل من شرعية مجلس النواب، ومقر الحكومة التوافقية إذا ما تم الاتفاق على تشكيلها، ومجموعة الأسماء المقترحة لشغل الحقائب الوزارية في هذه الحكومة.

خاتمة

كما ذكرنا في مقدمة هذه الدراسة، لا تُفضي الثورات بشكل عام بالضرورة للنتائج التي قامت من أجلها، حتى وإن نجحت في إسقاط الأنظمة التي ثارت ضدها. ومجموعة العوامل التي من شأنها التأثير على مستقبل الثورات وصياغة مُخرجاتها قد لا تكون دوماً تحت سيطرة الفئات والنُخب التي شغلت مواقع السلطة في مرحلة ما بعد الثورة. ولعل الحالة الليبية بالتحديد، وخاصة في سياق ثورات الربيع العربي بشكل عام، يُحيط بها الكثير من الخصوصية.
ولكن المهم إدراكه هو أن الوضع الراهن الذي آلت إليه ليبيا ليس من صناعة طرف واحد، ولا يتحمل مسئوليته تيار سياسي بعينه، أو تشكيل عسكري مُحدد. كما أن الخلاف بين مختلف الأطراف الليبية والصراع الدائر على الأرض عسكرياً وعلى طاولات الحوار سياسياً، ليس صراعاً بين طرفاً على حق وآخر على غير حق، ففي ظل غياب معايير واضحة، وتقلص سيادة الدولة وشرعيتها، وغياب الاستقلالية عن المؤسسات القضائية، وتهاوي دور القانون، وضعف المؤسسات الأمنية وانتشار السلاح في كل مكان داخل ليبيا، في ظل هذا الواقع المُلتبس والمؤلم في ذات الوقت، من غير الممكن تحديد من على صواب ومن على خطأ. وبالرغم من استمرار احتمالات التدخل العسكري في ليبيا، خاصة في ظل سعي قوى إقليمية للبحث عن مظلات شرعية تُبيح مبدأ الحسم العسكري والتدخل الأجنبي تحت مُسميات مختلفة كمكافحة الإرهاب والتطرف، أو الدفاع عن الشرعية، أو الحرص على سلامة المدنيين، يظل التدخل العسكري في ليبيا مستنقعاً لن يخرج منه أحد بسلام، لا القوى الأجنبية التي ستتدخل، حتى ولو كانت قوى عربية تعمل تحت لواء القوة العربية المشتركة كما كان الوضع في اليمن إلى حد ما، ولا الشعب الليبي بأطيافه السياسية والاجتماعية المختلفة الذي سيكون الضحية الأولى لعدد من المجازر التي كان من الممكن تجنبها.
ولذلك يظل الحوار السياسي الليبي أولوية لا يمكن التخلي عنها، وبالرغم من غياب أية نتائج حقيقية لهذا الحوار حتى الآن بالرغم من جولاته الكثيرة التي عُقدت داخل ليبيا وخارجها، إلا أن الأزمة في هذا الحوار حتى الآن، وكما حاولنا أن نوضح في هذه الدراسة، ليست أزمة غياب الإرادة السياسية للتسوية عن الأطراف المشاركة في الحوار، ولكنها أزمة رؤية غير كاملة لطبيعة الوضع في ليبيا، وأزمة أداء غير موضوعي وغير واعي من قبل راعي هذا الحوار. وبالتالي فإن استمرار هذا الحوار بعد تعديل سياقه، وإعادة صياغة أهدافه، وإعادة النظر في أطرافه، ضرورة لابد منها.

هوامش
انظر Kelly, Jonathan & Herbert S. Klein “Revolution and the rebirth of Inequality: Stratification in post-revolutionary society” American Journal of Sociology, vol.83, no.1, pp.78-90, July 1977
انظر في ذلك Goldstone, Jack A. “Revolutions: theoretical, comparative and historical studies” Wadsworth, USA, 2008, pp.89-87
انظر في ذلك Goldstone, Jack A. “Revolutions: theoretical, comparative and historical studies” pp.84-95 مرجع سبق ذكره
انظر في ذلك Zimmermann, Ekkart “On the outcomes of revolutions: Some preliminary considerations” Sociological Theory, Vol.8, no.1, Spring 1990
انظر Zimmerman, Ekkart “On the outcomes of revolutions: some preliminary considerations” p.36 مرجع سبق ذكره
• انظر في ذلك Goldstone, Jack A. “Rethinking revolutions: integrating origins, processes and outcomes” Comparative studies of South Asia, Africa and the Middle East, Vol.29, No.1, 2009

انظر “سباق التصعيد والتسوية في ليبيا” موقع قناة الجزيرة، http://www.aljazeera.net/knowledgegate/newscoverage/2015/4
انظر في ذلك زياد عقل، “تحديات الحوار السياسي الليبي” متابعات تحليلية، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 3\5\2015 http://acpss.ahramdigital.org.eg/Review.aspx?Serial=225
انظر “ليبيا: الصراع المسلح وآفاق الحل السياسي” مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية، http://www.csds /
انظر “ليبيا: الصراع المسلح وآفاق الحل السياسي”، مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية، مرجع سبق ذكره
انظر في ذلك هشام الشلوي “حوار غدامس وغياب القوى الليبية الفاعلة” مركز الجزيرة للدراسات، 14 أكتوبر 2014 http://studies.aljazeera.net/reports/2014/10/2014101481349598655.htm
انظر “بعثة الأمم المتحدة: بدء جولة جديدة من الحوار الليبي في مكتب الأمم المتحدة في جنيف يوم الأربعاء” موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 13\1\2015 http://unsmil.unmissions.org/Default.aspx?tabid=5360&ctl=Details&mid=8954&ItemID=1992891&language=ar-JO
انظر في ذلك هشام الشلوي “ليبيا: ماذا لو فشل غدامس 2” موقع ن بوست، http://www.noonpost.net/content/4661
انظر في ذلك “وصول الأطراف الليبيين إلى الرباط لجولة جديدة من الحوار الوطني” موقع كويت نيوز، 5\3\2015، http://www.kuwaitnews.com/world/arab/86650-2015-03-05-16-40-37
انظر “ليبيا: اتهامات متبادلة في الجولة الرابعة من الحوار بالصخيرات” ، موقع جريدة المغرب، 17\4\2015.

مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *