مع العياشي في رحلته إلى القدس

مقدمات
في هذا البحث نتناول القدس كما وصفها بعض الرحالة المغاربة في رحلاتهم. والمقصود بالقدس مدينة القدس وما جاورها مثل الخليل وبيت لحم، لأن المغاربة ـ فيما يبدو ـ كانوا يعتبرون ذلك كله امتداداً لتلك المدينة، بل ربما كانوا ينظرون إلى فلسطين كلها على أنها بلاد “مقدسة”.
وقد اقتصرنا على الرحلات التي كتبت خلال العهد العثماني، لأن ما كتب قبل ذلك يمثل عهداً إسلامياً آخر له رحلاته أيضاً، مثل رحلة ابن جبير (القرن 13 هـ) وبن بطوطة (القرن 14 م). ونعني بالعهد العثماني الفترة التي تمتد من فاتح القرن السادس عشر الميلادي إلى حوالي 1830، أي تاريخ احتلال الفرنسيين للجزائر وإخراجها من فلك الدولة العثمانية، وبذلك لا يشمل البحث الرحلات المغاربية التي كتبها أصحابها بعد 1830 بالرغم من أن الوجود العثماني قد استمر في تونس إلى 1881 وفي ليبيا إلى 1912 وفي القدس إلى 1917. أما المغرب الأقصى، فقد كان دائماً خارج فلك الدولة العثمانية.
ويبدو من الدراسة الأولى لتوجهات المغاربة نحو الشرق أنهم كانوا في الأغلب يكتبون رحلاتهم الحجازية، وليس القدسية أو الفلسطينية. فمعظم الرحلات المغربية المعروفة سواء في عهد الحكم الإسلامي في الأندلس وبلاد المغرب أو في العهد العثماني كانت تتناول تجربة الرحالة من بلده إلى الحجاز، أي رحلات الحج، ثم رجوعه إلى بلاده. أما زيارة القدس، فلم تكن دائماً في برنامج الرحلة. لماذا؟
ليس لدينا الآن الجواب المقنع. إنه من المعروف أن المسجد الأقصى يأتي في المرتبة الثالثة بالنسبة للبيت الحرام ومسجد الرسول r. ولكن الظاهر أن ذلك ليس هو السبب وراء ندرة زيارات القدس، ومن ثم قلة الرحلات المكتوبة عنها. ونعتقد أن وراء ذلك أسباباً أخرى اقتصادية واجتماعية وأمنية.
ذلك بأن الحج كانت تقوم بأدائه في العادة الفئة المتوسطة والفقيرة وبعض الأغنياء([1])، وكان العلماء (المثقفون) من الفئة الأولى في أغلب الأحيان: فلا الفقراء كانوا قادرين على كتابة الرحلات لجهلهم، ولا الأغنياء الذين كانوا غالباً من الموظفين السامين الذين لا شأن لهم بالكتابة وربما ليس لهم الوقت للبقاء في المشرق وأداء الزيارات هنا وهناك؛ فقد كانوا يؤدون الفريضة ثم يرجعون لمهامهم في السلطة. وكان طريق الحج شاقاً ويحتاج إلى التزود بالمال والمؤونة والاستعداد للدفع من أجل القوت والحمل والركوب والكسوة ومصاريف أخرى معروفة أو طارئة؛ ولذلك كان بعضهم يمتهن التجارة في ذهابه وإيابه ليعيش منها، وقد يعيش من حرفة النساخة مثلاً.
والرحالة المغربي لا يسافر وحده بل في جماعة، وهنا تصبح الجماعة ظاهرة اجتماعية حيوية، ولا نعني هنا الركب الرسمي أو قافلة الحج المعروفة، وإنما الصحبة المعروفة التي تتعاون في السراء والضراء أثناء الرحلة إلى حين العودة إلى الأهل والبلاد. فالحاج كان واحداً من كل وفرداً في جماعة يتضامنون ويتكافلون ويسهرون بعضهم على مصالح البعض، ولذلك نلمح أن الفرد إذا أراد الخروج عن الجماعة لغرض من أغراض الزيارة أو التخلف لأداء مهمة، فإنه يفعل ذلك بالاتفاق مع أصحابه، كما فعل العياشي حين عزم على الانفصال عن القافلة ليزور القدس. وكان هذا التضامن حاضراً في كل الأركاب والقوافل، ولكنه ربما كان أوضح من غيره لدى المغاربة الذين يجعلهم بُعْدُ الشقة واختلاف اللهجة أكثر التصاقاً ببعضهم، بالرغم من تعاونهم مع الركب المصري وانضمامهم أحياناً إليه.
أما مسألة الأمن، فقد أثرت كثيراً في القيام بزيارة القدس. إن الذين كتبوا عن قوافل الحج أو طالعوا الرحلات يعرفون كم كان الطريق محفوفاً بالأخطار على الحجاج. فهناك بالإضافة إلى قطاع الطرق، قبائل تمتهن فرض أتاوات على الحجاج؛ وهناك ثورات تحدث في المنطقة التي يمر بها الحجاج فيصبح قطع المنطقة خطراً آخر على العابرين. وهناك تمردات على أرباب السلطة يكون الحجاج أحياناً من ضحاياها. أما الأخطار الطبيعية، فهي معروفة. فانقطاع الماء وعدم معرفة الآبار، وغش الأدلاء، والتيه، كلها تعرض حياة الحجاج إلى خطر حقيقي. ويحدثنا العياشي عن ظاهرة أخرى كادت تجلب إليهم نقمة الأهالي وهي لباسهم قبعات الخوص اتقاء لحرارة الشمس. فقد ظنهم بعض الأهالي من الفرنجة، فكانوا لهم ما لا يريدون سماعه. يضاف إلى ذلك أخطار البحر على من سلكوا طريق الموانئ([2]).
وليس كل الذين زاروا القدس أو عملوا فيها تركوا لنا رحلات نعرف من خلالها حياة المدينة وحياة أهلها وتجارتها ومعارفها. فهذا أبو الفضل المشدالي أقام في القدس وتعاطى التدريس بها طويلاً، ولا نعرف أنه ترك رحلة مكتوبة([3])؛ وهذا محمد بن الأزرق تولى القضاء في القدس وتوفي فيها، ومع ذلك لا نجد له أثراً مكتوباً يصف فيه إقامته بها([4])؛ ودخل أبو راس الناصر فلسطين وذكر مدينتي غزة والرملة، ولم يذكر القدس في رحلته “فتح الإله”([5]).
وأهداف زيارة القدس مختلفة من رحالة إلى آخر. وإذا كانت المشاعر الدينية هي الغالبة على هذه الزيارة، فإن البعض كان يكتفي بزيارة المسجد الأقصى والإكثار من الصلوات فيه ووصف أوضاعه وتاريخه كما فعل الزياني في “الترجمانة الكبرى”([6])؛ والبعض كان يهدف إلى استكمال معارفه عن “بلاد الشام »، كما فعل أحمد المقري، الذي زار القدس حوالي سبع مرات، ومع ذلك لم يخصص لها من كتابه الضخم “نفح الطيب” سوى بضعة أسطر ليست بذات قيمة([7]). أما العياشي، فقد كان اهتمامه بالدرجة الأولى بزيارة المسجد الأقصى، وليس مدينة القدس والحصول على الإجازات من رجال الدين والتصوف. ولذلك لم يتحدث عن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في هذه المدينة، واكتفى ـ وهو الرجل المهتم بالتصوف والحياة العلمية ـ بمخالطة رجال الدين والتصوف البارزين والحصول منهم على إجازات وتبادل القصائد معهم.
ونخلص من ذلك إلى أن الذين زاروا القدس وكتبوا عنها من الرحالة المغاربة عدد قليل جداً بالقياس إلى الذين زاروا الحرمين الشريفين وكتبوا الرحلات الحجازية. فلا الورتلاني ولا الدرعي ولا ابن عمار ولا أبو راس ترك لنا جزءاً من رحلته عن القدس، وكلهم عاشوا في العهد العثماني([8]).
وهكذا لم يبق لنا سوى ثلاث رحلات تناولت القدس بتفاوت وتباين في الاهتمام، وهي رحلة المقري ورحلة العياشي ورحلة الزياني. ونريد أن  نقتصر هذه المرة على الرحلة الثانية.

حياة العياشي
إن ترجمة العياشي متوافرة في عدة مصادر مغربية ومشرقية، ومعظم تآليفه يغلب عليها الأسانيد والتصوف وما تزال مخطوطة، ولا نعرف من كتبه المطبوعة سوى رحلته المعروفة بـ”ماء الموائد”، وهو عنوان أحسن اختياره إذا كان مقصوده أنها عمل لا غنى عنه كما لا يستغني الإنسان عن الماء سواء في الموائد أو غيرها. ولكن طبعة الرحلة أصبحت قديمة؛ فقد طبعت طبعة حجرية في آخر القرن الماضي (1898)، فكانت صعبة الخط عويصة الفهم. وقد أشرف محمد حجي على استخراج ما فيها من أعلام، وأعيد تصوير طبعة فاس بفهارس جديدة، سنة 1977. وليتهم طبعوا النص طبعة حديثة ليكون أكثر فائدة وسهولة للقراء وأكثر مطابقة لعنوان المؤلف، وهو “ماء الموائد”.
والعياشي هو عبد الله بن محمد بن أبي بكر المكنى أبو سالم، نسبة إلى قبيلة آيت عياش البربرية القاطنة بنواحي سجلماسة جنوب غربي المغرب الأقصى؛ وقد ذكر له المترجمون سبعة تآليف من غير الرحلة([9]). قرأ العياشي على شيوخ منهم أخوه الأكبر، وأبو بكر بن يوسف الكتاني، وعبد القادر الفاسي، وغيرهم، وقرأ أثناء حجه على شيوخ مصريين، منهم الأجهوري والخفاجي وإبراهيم المأموني وعلي الشبراملسي وسلطان المزاجي، وفي الحجاز جاور عدة سنوات وأخذ العلم والتصوف عن جماعة منهم زين العابدين الطبري وعبد الله باقشير، وعلي بن الجمال، وعبد العزيز الزمزمي وإبراهيم الكردي وحسين العجمي، ومنهم عيسى الثعالبي أحد أعيان الجزائريين المهاجرين إلى مكة، ونال من هؤلاء جميعاً الإجازات وكتب عن بعضهم الأسانيد. وقد سافر إلى الحج مع وفد جزائري يرأسه عبد الكريم الفكون، فأخذ عنه مؤلفاته وطريقته، وكتب عنه في رحلته صفحات ثمينة([10])، وكانت له مع بعض العلماء الجزائريين في المشرق خلافات في الرأي نذكر منهم يحيى الشاوي الذي تنابز مع العياشي ونال كل منهما من الآخر. وسنرى أن العياشي ذكر مجموعة أخرى من العلماء وزعماء التصوف في مدن فلسطين، مثل غزة والرملة والقدس والخليل، والتقى بعلماء آخرين مغاربة، منهم عبد العزيز النفاتي التونسي قاضي القدس في وقته.
أخبر العياشي أنه كان “ينوي” زيارة القدس، وهو ما يزال في طريقه إلى الحج. وأثناء مجاورته الحرمين تجددت عنده نية الزيارة. ولكن الوسائل المادية كانت تعوزه؛ فقد كان يشكو من “قلة ذات اليد” وكذلك من الخوف في الطريق. ولكنه عندما حل بالعقبة وجد من شجّعه على الزيارة وكتب له كتباً تعرفه للوجهاء في أهم المدن الفلسطينية، ومنها القدس الشريف.
ونفهم من العياشي أن هناك ما يمكن أن نسميه بالتضامن المغاربي، بحيث كان المغاربة يساعدون بعضهم بعضاً. ويأتي ذلك في سياق الحديث عن نسبة بعض الرجال مثل المغربي، والزناتي، والتونسي، والطرابلسي. فقد قال إنه عندما وصل المويلح وشعر باشتداد الحر، ذهب ليستريح في ظل سور من النخيل فوجد حارسه رجلاً من “زناتة إفريقية”، فآواه وسقاه الماء البارد وأعطاه الرطب، وأخذ راحته عنده، ولم يخبرنا العياشي ما دار بينه وبين هذا الرجل الذي يبدو مؤكداً أنه من البربر، مثله. وذكر العياشي المنازل التي مروا بها بين المويلح والعقبة، فكانت: عيون القصب، ومغارة شعيب، وبني عطية، وظهر الحمار، ثم العقبة.

من العقبة إلى غزة
كانت الزيارة سنة 1074 أثناء الحجة الثانية للعياشي. وفي العقبة حيث يفترق ركب الحج المصري والمغربي والشامي، تجددت نية العياشي في زيارة القدس. وكان سبب ذلك وجود أهل غزة وأهل معان في العقبة؛ فقد جاؤوا للتجارة مع الحجاج وأحضروا معهم الفواكه. فقال العياشي عن هذه الظروف:
تجددت لنا نية السفر إلى القدس الشريف وزيارة ثالث الحرمين ومشاهدة الأرض المقدسة المباركة، ومعاينة آثار الأنبياء، وزيارة الخليل ونبيه، عليهم الصلاة والسلام. وكان ذلك يختلج في أفكارنا أيام المجاورة كلها، ونرغب إلى الله تعالى في تيسير ذلك في مضان الإجابة، وهي إحدى المسائل التي سألت الله تعالى فيها بالملتزم… فمنَّ الله بالإجابة ([11]).
ولكن النية لا تكفي. فقد وجد نفسه بلا مال، وبلا رفاق، وأمام مشاق جسيمة، وطريق غير مألوفة، مع شدة الخوف من أهوال الطريق، وكان يفكر في أنه بعد الوصول إلى مصر يترك الركب هناك أياماً ويذهب للزيارة ثم يلتحق بالركب المغربي في مصر ويرجع معه إلى بلاده، ولكن ظروفاً جديدة عرضت له فجعلته يغير من خطته ويبدأ رحلته إلى القدس الشريف من العقبة. كان قبل ذلك يرى تحقيق الرحلة أمراً صعباً بل متعذراً.
لقلة ذات اليد، وعدم القدرة على مقاسات (كذا) المشاق العظيمة التي يوجبها الانفراد عن الطريق المألوف، والسلوك في بلاد غير معهودة، والمعارف بها مفقودة، والرفقة إليها غير مأمونة، والمخاوف إن لم تتحقق فهي مظنونة ([12]).
لكن وجود الحاج أحمد العجيس الطرابلسي معهم في الرَّكْب ووجود أهل غزة في العقبة جعله يغير خطته ويعزم على زيارة القدس ابتداء من العقبة. فقد اكترى لهم (وكانوا ثلاثة) الحاج أحمد الطرابلسي حملين وجلب لهم الماء من رجل اسمه صبح الدباب، من عرب الحكوك، ووفر لهم ما يحتاجونه من نفقة في الطريق إلى القدس، فتخفف العياشي وصاحبه من الأثقال وترك كتبه عند الركب المغاربي المتوجه إلى مصر، وفارقوا الركب الذي رحل عنهم يوم 29 محرم، وقد شعروا بوحشة عظيمة، وكانوا الثلاثة “مثل الأثافي لا رابع لنا إلا عناية الله”. واغتنموا الفرصة والفراغ فزاروا قبر إبراهيم اللقاني، بعد أن دلهم عليه بعض أصحابهم “الفريقيين”. ثم ارتحلوا في قافلة أهل غزة. وكان الركب الشامي في خفارة أمير الوحيدات وما والاها من عرب غزة. وهذا الأمير يدعى بشير، وكان قد جاء إلى العقبة على رأس حوالي عشرين فارساً من أصحابه.
وتختلط المصالح والأحداث والأشخاص في رحلة العياشي، فنعرف أن هناك الحاج حسن المغربي الذي كان هو كبير حجاج أهل غزة في هذه السنة. وكانت بين الأمير بشير والحاج المغربي معرفة، ولكنها معرفة غير قائمة على الثقة؛ فاتفقا على أن يذهب البشير بحجاج غزة بأتاوة يؤدونها إليه، ولكن الحجاج كانوا يخشون غدره، ولذلك استوثقوا منه عند أمير الركب المصري، وكتبوا بذلك محضراً. ولماذا هذا الخوف من غدر البشير؟ يخبرنا العياشي أنه وقعت في تلك السنة (1074 هـ) مقاتلة بين عسكر غزة والبشير وأن رجال البشير نهبوا العسكر، وخاف منهم أهل الركب الشامي، بالرغم من الضمانات التي قدمها لهم الحاج حسن المغربي، بل إن بعضهم لم يطمئن إليه وذهب إلى مصر. ويخبر العياشي أن القافلة كانت تضم مائة جمل، أربعون منها يملكها الحاج حسن المغربي وحده.
وقص العياشي أحوال الطريق بين العقبة وغزة، من نقص الماء، والخطر، وصعوبة المسالك. وذكر كيف تعرضوا إلى “شيخ العرب” الذي جاء ليحصي الجمال، وكيف أخبره الحاج حسن المغربي أن »هؤلاء حجاج فقراء لا شيء معهم فتركها«. وأخبرنا كذلك أنهم عندما اقتربوا من غزة، »فارقهم شيخ العرب وجماعته، لأنهم خافوا من باشة غزة؛ فإنهم قتلوا منه في الشهر الذي قبل هذا نحو ثلاثمائة وكيف سار الناس وهم في حالة خوف ووجل، لأن المحل الذي كانوا يسيرون فيه كان واقعاً بين الفريقين المتحاربين. وفي السابع من صفر، وضعوا رحالهم عند باب غزة، فاطمأنت نفوسهم«. وأخذ العياشي يصف غزة وما حولها، وهو وصف خارج نطاق هذا البحث.
وعندما دخلوا غزة، تلقاهم رجل من تجارها وأدخلهم داره وأطعمهم. ثم ذهبوا إلى الجامع الكبير واستقروا به. وتحدث عن حالة أهل غزة وما عندهم من تجارة نافقة، “مع ما هم عليه من التشويش من أجل العرب المخالفين؛ فإنهم يغيرون على القرى التي حول المدينة وينسفون زروعها، وعجز الباشا عن مقاومتهم”.

العياشي والغصين
وفي غزة تعرف العياشي بأحد علمائها، وهو عبد القادر بن الغصين. وكان إسماعيل النابلسي الذي يصفه العياشي بقوله “صاحبنا” هو الذي كتب كتاباً إلى الغصين وأعطاه العياشي ليعرفه به ويطلب منه العناية به. وفي المسجد سلم العياشي رسالة النابلسي إلى الغصين فظن الغصين أن الوصية تعني شخصاً آخر غير العياشي، فلم يأبه به في ساعتها. وانتظر العياشي إلى اليوم التالي، ثم ذهب إلى الغصين في مدرسته، وعرفه بنفسه على أنه هو المعني بوصية الرسالة. وكان العياشي صريحاً في حديثه عن نفسه، إذ قال إن الغصين كان يعتقد أن الموصى به كان شخصاً آخر غيره »لما رأى من رثاثة هيئتي«. فاعتذر له الغصين، ورحب به، وطلب أمتعته وصاحبيه من المسجد، وأنزلهم في مكان يليق بهم من مدرسته، وهو مكان مخصص للغرباء، وأحسن إليهم، [وأخبره الشيخ الغصين أن أمير البلد (غزة) هو الذي بنى هذا الرباط (المدرسة وتوابعها)، وحبسه عليه، وجعل له أوقافاً. وقد أخبره الغصين أن أحمد المقري، صاحب كتاب “نفح الطيب” هو سبب بناء الرباط والتحبيس عليه. فالمقري هو الذي دخل على الباشا، وكان معه الشيخ عبد القادر، وحث الباشا على بناء المدارس والمساجد والإحسان إلى أهل العلم. فلم يخرج من عنده حتى أمر الباشا بالقاضي وكتب الوثيقة في ذلك، واعترف الغصين بالدين لأحمد المقري: إذ أن ما هم فيه يرجع إلى فضله. وكان المقري يأتي إليهم من مصر بوصية من الشيخ النجار. وكان المقري قد بارك أخوي عبد القادر، وهما عبد الرحمن وآخر لم يذكره، وكلاهما من كبار التجار في غزة ومصر. وقد استجاز العياشي الغصين فأجازه. وقرأ عليه منظومة المقري المعروفة باسم “إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة”. وكان لدى الغصين نسخة منها.
وقد كتب العياشي أبياتاً مدح بها الشيخ عبد القادر الغصين مطلعها:
    لدى الشيخ الغصين أنخت رحلي     بغـزة مـا أعـز بهـا مـكــان
وممن لقيه العياشي أيضاً بغزة الشيخ عمر الشرقي، قاضي الحنفية، وهو صهر الشيخ الغصين. وذكر أن سلف الشيخ الشرقيّ كانوا من أهل العلم، وأنهم ازدادوا وجاهة بمصاهرتهم لآل الغصين. وقد أعطانا العياشي صورة عن حياة بعض العلماء وتعلقهم بالمناصب، حين قال إن الشيخ الشرقي كان شافياً. وعند وفاة القاضي الحنفي، تحول إلى مذهب أبي حنيفة حتى يتولى الخطة ويتقرب من أرباب السلطة. وقد انتقد العياشي هذا السلوك([13]).
وكان العياشي يرغب في زيارة عسقلان، ولكنه اكتفى برؤيتها من بعيد. وقال إن البساتين ممتدة من غزة إلى عسقلان. وعد من مزارات غزة قبر هاشم بن عبد المطلب جد الرسول r، وقبر الإمام الأوزاعي، ومولد الإمام الشافعي.
وبعد إقامة خمسة أيام من غزة، ارتحل العياشي عنها من الثاني عشر من صفر 1074. واكترى هو وصاحباه حمارين إلى الرحلة. وتخففوا من بعض حوائجهم فتركوها في غزة لحين الرجوع. وقد كتب إليه الشيخ عبد القادر الغصين رسائل إلى أعيان الرملة والخليل والقدس، يوصي به وبأصحابه خيراً.

العياشي في الرملة
يظهر أن هدف العياشي الرئيس كان ملاقاة العلماء وأهل الصلاح والتصوف، والحصول منهم على الإجازات وتسجيل ذلك في رحلته، وهذا الاهتمام كان مشتركاً في الحقيقة بين غالبية رحالة المغرب والأندلس منذ القديم، فعندما نزل العياشي بالرملة، ركز حديثه على رجال الدين فيها، ولا سيما أولئك الذين حمل إليهم الرسائل من الشيخ الغصين. فقد نزل العياشي وصاحباه عند محمد بن أبي الوفاء “الأشعري الحسيني”، وهو الذي كتب إليه الشيخ الغصين رسالة يوصيه فيها بالزوار المغاربة (والواقع أن العياشي لم يذكر من هما رفيقاه). واعترف العياشي بأن الشيخ أبا الوفاء قد أحسن إكرامهم وأحلّهم مقاماً طيباً، ولم يأخذ منهم شيئاً في المقابل. وأخبرنا  العياشي أن أبا الوفاء كان من فقهاء الشافعية، وأنه كان قد تولى القضاء بالقدس، وأن منزله بالرملة كان موثلاً للأعيان والأفاضل، ورافقه أبو الوفاء إلى الشيخ خير الدين الرملي يوم 14 صفر. ونعرف من العياشي أن الرملي كان طاعناً في السن، وأنه سمع منه الحديث المسلسل وأوائل الكتب الستة وكتب إليه إجازة بذلك. ومن أخبار الشيخ الرملي أنه قد غرس آلاف الأشجار في الرملة، وأن الناس قلدوه في هذا العمل، وأنه لم يتولّ ولاية ولا منصباً، وأنه المرجع في الفتوى ببلاد الشام، وكان الشيخ الرملي هو الذي دفع أجرة العياشي في الكراء إلى القدس ([14]).
ومن مزارات الرملة كما جاء في رحلة العياشي: قبر المقداد بن الأسود، ومشهد يقال إنه لعبد الرحمن بن عوف. وعلق العياشي على أن الصحيح أن ابن عوف قد توفي في المدينة، وقال العياشي إن أصل جامع الرملة كان كنيسة، وإن الفتح الإسلامي في الرملة كان بعضه صلحاً وبعضه عنوة، فكان الجامع مناصفة تبعاً لذلك، وصادف دخول العياشي الرملة مجيء آغا السلطان العثماني إليها، وكان الآغا قادماً من إسطانبول في أبهة عظيمة، حسب تعبير العياشي. وقد أورد قصة هذا الآغا بالتفصيل ([15]).

العياشي في القدس
لم يكثر العياشي من وصف مدينة القدس، فلم يتحدث عن أسواقها وتجارها وجالياتها وحرفها، وإنما وصف المسجد الأقصى، وتحدث، كعادته، عن بعض علماء البلاد، ولا سيما بعض المتنفذين منهم، كما تحدث عن قبة الصخرة، وزاوية المغاربة، وبعض أبواب المدينة.
واللاّفت للنظر أن الأمور كانت تبدو مسيبة. ففي الشعاب الواقعة على مشارف المدينة وجدوا أناساً يأخذون الغفارة من المارة، وقد تعرض العياشي ورفيقاه إلى اللعنات، لأنهم كانوا يضعون على رؤوسهم مظلات من الدوم فحسبوهم من الفرنجة.
وعند دخولهم القدس الشريف، صلوا العصر بقبة الصخرة، ووضعوا حوائجهم في زاوية المغاربة. وهناك التقى العياشي بالشيخ محمد الصيداوي، نقيب رواق الشيخ منصور، وكان الرواق يقع تحت صحن الصخرة المقدسة، وكان الشيخ الغصين قد كتب إلى الشيخ الصيداوي بشأن العياشي، ولذلك احتفى الشيخ الصيداوي بضيوفه وأعطاهم بيتاً إزاء الرّواق الذي كان داخل المسجد، فاغتبطوا بذلك لأنهم سيتمكنون من الجلوس في المسجد والصلاة فيه متى شاؤوا.
وقد خص العياشي المسجد الأقصى بأوصاف كثيرة. فهو مسقف كله، وهو رفيع البناء، وتصلى فيه الجمعة، وفيه مكان معلوم صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب، وفي ركنه الشرقي مزار يقال له مهد عيسى، وله طاقات واسعة يشرف منها الناظر على الوادي الذي يسمى وادي جهنم، وتحت المسجد الأقصى مسجد آخر واسع جداً مرفوع على أساطين من حجارة منحوتة، وهي من البناء السليماني. ويلخص العياشي رأيه فيقول:  »وبالجملة، فغرائب الصخرة والمسجد الأقصى وما حولهما من المزارات شيء كثير«([16]). ويعترف أن هناك تآليف كثيرة حول الموضوع، ولكنه يقتصر في روايته على ما شاهده شخصياً (“بعض ما رأيناه وزرناه”).
ومن هذه المشاهدات والمزارات حجرٌ خارج بعض أبواب المسجد يتبرك به الناس على أنه مربط البراق. وقد غلب العشب والكلأ اليابس على الناحية الشرقية من المسجد، فلا يقدر المرء على المشي فيها بلا نعل لكثرة شوكها، ويعتقد الناس أن سماء القدس دائماً فيها غيم، فلا تظل صافية كامل اليوم. ولعله يريد أن يقول إن ذلك من الكرامات. ثم إن أرض القدس أرفع مكان وأقرب مكان إلى السماء.
ومن المزارات خارج البلدة طور زيتا الواقع بين المسجد والوادي الكبير (وادي جهنم)، يشرف طور زيتا على القدس كله وعلى ما حوله. وفي أعلىطور زيتا مزارة يقال إن منها رفع عيسى عليه السلام. وكانت هذه المزارة في يد النصارى، ولكن الشيخ محمد العلمي هو الذي سعى إلى استعادتها منهم إلى أن نجح في ذلك. وقد بنى الشيخ تحت المزار مشهداً أو رباطاً، وفيه قبره. وأخبر العياشي أن هذا المكان يوجد تحت يدي أولاد الشيخ، ومنهم عمر العلمي الذي سيرد ذكره. وفي أعلى جبل الطور قبرُ رابعة العدوية، وهو في مغارة تحت الأرض، وقبر مريم الذي يوجد في كنيسة بأصل الوادي، وكان في عهد العياشي بأيدي النصارى. وقال إنه تحرج من الدخول إلى هذا القبر، فاكتفى بزيارته بالعين من الخارج.
وذكر من المزارات عين سلوان التي توجد في أسفل الوادي، ولم يصل إليها أيضاً ولم يزرها إلا بالعين، وأرسل من جاءه منها بماء، لأن الآثار وردت بفضل هذه العين حسب قوله، وقد أخبر أنها ليست عيناً جارية على وجه الأرض، وإنما هي في شكل حوض ينزلون إليه بأدراج؛ وهناك قبر شداد بن أوس وقبر عبادة ابن الصامت، وكلاهما تحت سور المسجد الشرقي؛ وفي المكان نفسه مقبرة عظيمة. وفي سور المسجد حول القبرين المذكورين صخرة عظيمة ذات أذرع قيل إنها من آثار النبي سليمان، وموضع يقال إنه هو عرشه وهو حول باب المسجد الموالي لناحية الوادي.
وفي غرب مدينة القدس مزارات أخرى منها موضع يقال إنه قبر النبي داود. وكان في الماضي تحت إشراف النصارى، ولكن الشيخ محمد العلمي أو غيره من الصالحين استعاده منهم. ويقول العياشي إن أغلب المزارت في تلك البلاد (الجهة؟) هي بأيدي النصارى، ومنها ـ في بيت لحم ـ مولد عيسى عليه السلام، وقد مروا قريباً منه عند توجههم إلى الخليل، ومنها قبر يونس بن متَّى عليه السلام، وهو في قرية قرب الخليل. وقد اكتفى العياشي بزيارة المكانين بالعين »تأثُّماً من دخول متعبد النصارى ولضيق الوقت«([17]). أما قبر موسى عليه السلام، فبينه وبين القدس نحو نصف مرحلة، ناحية المشرق؛ وقد أروه ما يحاذيه من الأمكنة، عندا صعدوا الطور، وأخبروه أن المسافة إليه مخيفة للغاية، وأنه لا يمكن الوصول إليه إلا بقوة ومنعة، بالرغم من أنه كان كثير الشوق إلى ما هنالك من العجائب. وقد تحدث العياشي عن بعض ما يرويه الناس عن ذلك المكان، وقال إنه لم يرد خبر صحيح عنه، وإن القبر أظهره بعض الملوك المتأخرين حوالي المائة السادسة أو السابعة عن طريق الكشف.
كان العياشي يريد زيارة قبر موسى أو الخليل، وكان الوقت ضيقاً، وخشي من ضياع الفرصة، فكان قلقاً، وهو لا يستطيع إطالة الإقامة، لأن عليه أن يلتحق بالركب المغاربي في القاهرة في وقت معلوم.

العياشي وقاضي القدس
وقد أشار عليه بعضهم بالحديث إلى قاضي القدس محمد النفاتي. وهذا الشيخ تونسي الأصل. وقد تقلد قضاء القدس بعد أن قدم من إسطانبول، وكانت للشيخ النفاتي وجاهة عند السلطان وعند العسكر، وقد جاءته هذه الوجاهة من أخيه علي النفاتي (أبو الحسن) الذي توفي. وكان الشيخ محمد النفاتي قد استوطن اسطانبول سنوات قبل تقلده القضاء بالقدس في هذه السنة (1074 هـ). ولاحظ عليه العياشي أنه لا يملك قوة الحافظ العلمية، وإنما كان ينتمي إلى الصلاح بسبب أسلافه.
اتصل العياشي بالشيخ النفاتي، فأكرمه إكراماً زائداً، وأظهر البهجة والسرور به، وطلب من أصحابه أن يهيئوا المنزل وضرورات المعيشة للعياشي ورفيقه. ولكن العياشي أخبره أنهم قد نزلوا في بيت بالمسجد الأقصى، وأنه لا يمكنه التحول منه لراحتهم فيه وقربهم من المسجد، فاكتفى النفاتي بتوفير حاجتهم من لحم وخبز ونحوهما. وكانت هذه الحاجات تذهب إلى منازلهم يومياً. ويخبرنا العياشي أنه نظم قصيدة وقدمها إلى الشيخ النفاتي “مكافأة له على بره” وإحسانه، وقد جاء فيها:
لقاضي قضاة القدس سره
تبدى بأفق الغرب من خير عترة
فصار بأفق الشرق يسري إلى العلا
غدا قمراً فيه يضيء لقاصد
تولى به دون البلاد لنسبة
وذلك أن »القدس« أرفع بلدة
علو غدا فوق السما مستقره
هلال به قدماً تشرف قطره
ولم ينقطع حتى على النسر سيره
ولكنه في »القدس« قد تم بدره
يراها لبيت قد تهدب فكره
كما قد أتانا في الأحاديث ذكره
وقد ظهر له أن العياشي يرغب في زيارة المقامين، قبر موسى وقبر الخليل، فثبطه النفاتي عن زيارة قبر موسى لطول المسافة وكذلك لعدم التأكد من أنه مشهد الكليم حقاً، ثم إن الأمن مفقود هناك بالإضافة إلى قلة العمران، وضرورة ذهاب القيم معهم وهو غير متيسر، إلى آخر ما هناك من مثبطات. ولذلك قبل العياشي العذر، واكتفى بالنية، فلم يبق أمامه ورفيقه سوى زيارة الخليل التي حثهم القاضي النفاتي عليها.

العياشي وشهاب الدين المصري
أخبر العياشي أنه لقي في القدس أيضاً أحد علماء مصر، واسمه شهاب الدين الحنفي. وكان هذا الشيخ قد وصل إلى القدس منذ حوالي شهرين. وقد سمع به العياشي وغيره وهم ما يزالون في غزة والرملة، وعلموا آنذاك أن الشيخ من كبار العلماء الذين حلوا بالقدس وتعاطوا التدريس في علم الحديث؛ فاشتاق العياشي إلى لقائه. وكان الشيخ شهاب الدين نازلاً بالقرب من رواق الشيخ منصور حيث نزل العياشي. وقد بعث الشيخ شهاب الدين إلى العياشي، فزاره في منزله ورحل به وسأله عن أخبار الحجاز. ويذكر العياشي أنه كان يجله على السماع، ورجع إليه العياشي في اليوم التالي فوجده يقرئ مناسك الحج على مذهب أبي حنيفة؛ وجرى ذكر التروية، فقال الشيخ إنها مشتقة من الرؤية، فاعترض العياشي وقال إنها من التروي بالماء، فأبى الشيخ ذلك، وجرى بينهما الخلاف حول مسائل أخرى، ورجعا إلى الكتب ومنها “الصحيحان”، وفي آخر المطاف تغلب العياشي وأخرج الشيخ أمام جمع من العلماء، منهم عمر العلمي، فلم يسع الشيخ شهاب الدين سوى الانتقال من القدس بعد يومين عائداً إلى مصر. وأثناء رجوع العياشي، لقيه في الخليل، ثم في غزة، واجتمع به في خان يونس، وتعاملا بالمجاملة، وتفارقا في دمياط على خير ما يرام.
ولكن العياشي لم يترك صاحبه إلا بعد أن وسع دائرة النقد للعصر وأهله. فالشيخ شهاب الدين غبي في نظر العياشي وجاهل أيضاً، لأن »ما انتشر له من الصيت إنما هو بغلبة الجهل على أهل تلك الديار وقلة المخلصين بها فضلاً عن المحققين«([18])، ولكن العياشي اعترف للشيخ بالجرأة والجسارة وطلاقة اللسان والسمعة.

العياشي وعمر العلمي
أشار العياشي في عدد من المرات إلى أسلاف أسرة العلمي، ولكنه عاصر الشيخ عمر بن عبد الصمد بن محمد والتقى به واعتبره من شيوخه. هذا النوع من العلماء في كل بلد حل به، وقد اعتبر العياشي محمد العلمي (الجد) تارة قطباً وتارة غوثاً، وقال أنه هو شيخ شيخه، أبي بكر السكتاني المغربي، لأن السكتاني قد تلقى الذكر الصوفي عن محمد العلمي وحصل منه على الإجازة. وروى العياشي أن أحمد المقري، صاحب “نفح الطيب”، قد تلقى على الشيخ محمد العلمي أيضاً، ولكننا لا نعرف ماذا تلقى عنه. وكان المقري هو الذي أشار على السكتاني بلقاء العَلَمِيِّ الجد.
وفي اليوم الثاني من حلول العياشي بالقدس، دعاهم الشيخ عمر العلمي إلى داره (الجمعة 18 صفر). وقد أخذ عليه العياشي العهد، وشد عليه المئزر، ومارس طقوساً أخرى معروفة عند أصحاب الطرق الصوفية. وأجازه العلمي إجازة تتضمن خطوطاً لأصحابه وأصحاب جده يشهدون عليها. وقد أورد العياشي نص الإجازة والقصيدة التي نظمها في مدح الشيخ عمر العلمي الذي يسميه “شيخنا”:
جزى الله عنا خيراً أبا حفص
سليل إمام كان قطب زمانه
إمام الهدى من للكمالات ذا قنص
ومنزله في خاتم الفصل كالنص
ووصف العياشي شيخه عمر العلمي بأوصاف الوجاهة والزهد، وقال إنه خليفة جده (ولم يتحدث طويلاً عن والده عبد الصمد) في مجالس الذكر كل ليلة مع جماعة كثيرة من أصحابه بين العشائين،  بباب الصخرة، وأخبر أن والده عبد الصمد قد توفي مبكراً لكفله جده وورَّثه مكانته. وقد نقل العياشي إجازة الشيخ عمر العلمي له، »تبركاً بها« ([19])،بالرغم من طولها. وقد شهد على هذه الإجازة عدد من مشايخ القدس المقربين للشيخ عمر العلمي الذي يمثل في الحقيقة الطريقة الرفاعية. ويبدو أن هذه الطريقة كانت لها شهرة كبيرة عندئذ في القدس.

العياشي والشيخان محمود السالمية وقاسم إمام
هذان الشيخان كانا أيضاً من أتباع الطرقة الرفاعية، ومن ملازمي الشيخ عمر العلمي. وقد شهد الأول منهما (محمود السالمي) على إجازة العلمي للعياشي. وقال العياشي إنه عقد مع الشيخين السالمي وإمام “عقد أخوة في الله” وتكفلاً له بالدعاء مدى الحياة. ومن المهم هنا أن السالمي منح العياشي ديوان الشيخ محمد العلمي الذي يحتوي على قصائد صوفية كثيرة، وعلى أمداح مدح بها الرسول r؛ كما منحه مجموعة من رسائل الشيخ محمد العلمي أيضاً، وقد وعد العياشي بذكر بعضها في رحلته.
وتوجد شهادة محمود السالمي في عدة صفحات([20])، وجاء في آخرها: “انتهت الإجازة البهية على يد أضعف البرية، محمود السالمي القدسي راجياً دعوة بظهر الغيب من أستاذنا الشيخ الكبير المجيز، ومولانا وشيخنا المجاز،… وذلك آخر صفر الخير سنة 1074”.
ومن الذين شهدوا أيضاً على هذه الإجازة: عبد الباقي بن عبد القادر بن محمد العلمي، ودرويش التميمي، ويحيى بن شبنانة، وعلي بن عمر بن عبد الصمد بن محمد العلمي، وأحمد بن حسن الرجواني، وقاسم بن عبد المعطي، وعبد الرحمن بن الحاج أحمد الدقاق، وعلي الحوراني، ويحيى بن المهدي، وعلي الكردي، وغير هؤلاء. وقد وصف بعضهم العياشي ـ مثل الشيخ محمود السالمي ـ بالمحدث وأخذ إجازة عن العياشي وسماه “شيخنا”.
وهكذا نرى أن العياشي لم يكن مهتماً بالحياة الاقتصادية والاجتماعية لمدينة القدس. ولم يسجل أسعاراً ولا بضائع ولا عدد سكان وأجناسهم ومعاشهم، وكان اهتمامه في الأساس بالجوانب الدينية كالمساجد والزوايا والربط، والجوانب الروحية كالانتماء إلى الطرق الصوفية، ولا سيما الرفاعية، والحصول من أصحابها على إجازات وشهادات. وكان يقدم بين يدي شيوخه الجدد بعض الأشعار للشكر والتقدير. وقد نفهم أن العياشي أراد أن يسجل في رحلته عن القدس وغيرها ما كان يشغل بال متعلمي المغرب عندئذ، وهي شؤون الدين والتصوف وأسماء المشتغلين بهما في المشرق.
بعض المراجع
أبو راس، محمد الناصر، فتح الإله ومنته، تحقيق محمد بن عبد الكريم، الجزائر، 1990.
ابن الأزرق، محمد، بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق علي سامي النشار، بغداد، 1977.
الإدريسي، محمد بن محمد الشريف، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، المجلد الأول، مكتبة الثقافة الدينية.
البلوي، خالد، تاريخ المفرق، جزآن، تحقيق الحسن السائح، ط. المغرب، 1980.
الجبرتي، عبد الرحمن، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، 1980.
الدرعي، أحمد بن ناصر، الرحلة الناصرية، نقل عن العياشي. حج الدرعي سنة 1122 هـ.
الدرعي، ابن عبد السلام الناصري، الرحلة الناصرية. (مخطوطة).
الزركلي، خير الدين، المجلد 15، ص. 172.
الزياني، أبو القاسم بن أحمد، الترجمانة الكبرى، تحققي عبد الكريم الفيلالي، الرباط، 1967.
أبو القاسم، سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، ج 1، الجزائر، 1985.
شراب، محمد محمد حسن، بيت المقدس والمسجد الأقصى، دار القلم، دمشق، 1994.
الشنوفي، علي، مكة المكرمة والكعبة المشرفة من كتب الرحالة المسلمين، تونس 1989.
العبدري، محمد البلنسي، الرحلة العبدرية، تحقيق أحمد بن جدو، كلية الآداب، الجزائر، 1964.
العياشي، أبو سالم عبد الله بن محمد، الرحلة العياشية (ماء الموائد)، جزآن، ط 2، مصورة، الرباط، 1977.
فهيم، حسين محمد، أدب الرحلة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1989.
القلصادي، علي، رحلة القلصادي، تحقيق محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1989.
المقري، أحمد، النفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1980.
الهيلة، محمد الحبيب، “القدس وشعاعها من المغرب والأندلس من خلال الرحلات العلمية، المؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام، عمان، المجلد 3، 1983.
‎———————————-
([1])انظر بحثنا “حول أدب الرحلة عند المغاربة”، ضمن دراسات في مصادر تاريخ العرب الحديث، إعداد هند أبو الشعر، جامعة آل البيت، الأردن، 1998، صص. 495 ـ 506.
([2])هناك رحلات مغاربية وأندلسية غير قدسية، مثل رحلة العبدري ورحلة القلصادي. ومن الرحلات التي تضمنت الحديث عن بيت القدس، “تاج المفرق” أو “رحلة البلوي” (ت 1164 هـ/ 1765 م، ولكنه اقتصر على الحديث عن المسجد الأقصى والصخرة المشرفة ولقاء بعض علماء الوقت.
([3]) أحمد أبو عصيدة البجائي، رسالة الغريب، تقديم وعرض أبو القاسم سعد الله، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1991.
([4])محمد بن الأزرق، بدائع السلك، تحقيق علي سامي النشار، بغداد، 1977.
([5])الناصر أبو راس، فتح الإله ومنته، تحقيق محمد بن عبد الكريم، الجزائر، 1995.
([6])أبو القاسم الزياني، الرجمانة الكبرى، تحقيق عبد الكريم الفيلالي، الرباط، 1967.
([7])أحمد المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، ج 1، بيروت، 1988، ص. 154.
([8])عن رحلات ابن عمار والورثلاني وأبي راس، انظر كتابنا أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج 1، ط 3، بيروت، 1992.
([9])ترجمة “العياشي” في “الأعلام” للزركلي، ج 4. وبناء عليه، إنه ولد سنة 1037 هـ/ 1627 م، وتوفي سنة 1090 هـ/ 1679 م. وتوجد ترجمته في عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس، ج 2، ص. 211)؛ وصفوة من انتشر؛ ومناقب الحضيكي؛ وخلاصة الأثر، ج 3، ص. 70؛ وإعلام النبلاء، ج 6، ص. 387؛ ودليل مؤرخ المغرب، ج 1، ص. 247؛ وبركلمان، ج 2، ص. 357. وقد ترجم له أيضاً عبد الرحمن الجبرتي في عجائب الآثار، دار الجيل، بيروت، 1980، ص. 115.
([10])انظر كتابنا شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون رائد السلفية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986؛ وكذلك تاريخ الجزائر الثقافي، ج 1، ط 2، الجزائرـ 1985.
([11])العياشي، ج 2، ص. 300.
([12])المصدر نفسه.
([13])المصدر نفسه، ج 2، ص. 308.
([14])المصدر نفسه، ج 2، ص. 311.
([15])المصدر نفسه، ج 2، ص. 314.
([16])المصدر نفسه، ج 2، ص. 316.
([17])المصدر نفسه، ج 2، ص. 318.
([18])المصدر نفسه، ج 2، ص. 321.
([19])المصدر نفسه، ج 2، صص. 324 ـ 325.
([20])المصدر نفسه، ج 2، صص. 326 ـ 330.
 * شيخ المؤرخين الجزائريين/ جامعة آل البيت ـ عمان ـ الأردن/ مجلة التاريخ العربي..10

  

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *