لماذا يحب المغاربة ملكهم ويتشبثون بعرشهم؟؟

هيثم شلبي
2015-07-29T17:44:48+01:00
سلايد شوهكذا نراها
هيثم شلبي29 يوليو 2015آخر تحديث : منذ 9 سنوات
لماذا يحب المغاربة ملكهم ويتشبثون بعرشهم؟؟

على مدى عقود الاستقلال في أقطارنا العربية المختلفة، وبسبب ممارسات متراكمة للأنظمة التي تقلبت على حكمنا، تأسس نوع من العلاقة المطبوعة بالشك والريبة بين أنظمتنا وشعوبها، هذا إذا لم نستخدم مصطلح العداء، الأمر الذي يفسر التشكيك الفطري في صدق مظاهر الولاء والمحبة التي تواكب التظاهرات الخاصة بالمناسبات الوطنية في هذا البلد أو ذاك. هذه النتيجة كرسها التعامل الفوقي من طرف واحد بين من يجلس في مقعد المسؤولية من جهة، وباقي المواطنين أو لنقل الإفراد الذين يفترض أن هذه السلطة جاءت لخدمتهم من جهة أخرى، وذلك تجسيدا للمبدأ الجديد الذي سعت مختلف أنظمتنا لفرضه، والقائل بأن جميع المواطنين يجب أن يكونوا في خدمة “الوطن” الذي تقوم السلطة الحاكمة بالتعبير عنه، وتاليا، خدمة “الأمناء على مصلحة الوطن” الممسكين بدفة إدارته. هذا “التحكم” الذي تم تكريسه من خلال مختلف أدوات التواصل بين الطرفين من تعليم عمومي وجهاز وظيفة عمومية ووسائل إعلام رسمي، خلق فجوة شاسعة بينهما، لغياب أو تغييب المبدأ الأساس لمشروعية الحكم، أيّ حكم، والمتمثل في رضا المحكومين عن حاكميهم وعن خيارات بلادهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وأهداف وأدوات إدارة الشأن العام فيها.
مناسبة هذا الحديث، هي الذكرى السنوية التي يحتفل بها المغاربة، والمتمثلة في تولي عاهلهم الملك محمد السادس عرش أسلافه من ملوك الأسرة العلوية، ثاني أقدم الأسر الملكية الحاكمة في العالم بعد اليابان، والذي يثير فضول من هم خارج المغرب لجهة فهم علاقة المحبة الخاصة التي تربط المغاربة بمليكهم.

ولنبدأ بالأهم، وهو محاولة فهم علاقة المحبة الخاصة التي يكنها المغاربة قاطبة لمن يتولى مقاليد حكمهم، والتي انبنت مذ كان محمد السادس وليا للعهد، وما يعرفه المغاربة عنه من بساطة وتواضع مع الفقير قبل الغني، وإحساس بهموم من يلتقيهم من المواطنين البسطاء في جولاته الصباحية أو الليلية العفوية، أو من يجدهم بباب إقامته الخاصة ممن لديهم طلبات شخصية.
لكن وبعيدا عن هذه الحالات الخاصة، يمكن أن نستعرض سريعا عشرات الأسباب التي قد تساعد في فهم هذه العلاقة الخاصة، وغير المألوفة في الثقافة الشعبية لكثير من الدول العربية. فهل من قبيل المصادفة، أن يختار ولي العهد “سيدي محمد” ميدان التضامن ومكافحة الفقر، ليشرف عليه بشكل مباشر عبر مؤسسة “محمد الخامس للتضامن” سنوات قبل توليه العرش، وهي المؤسسة التي وضعت لنفسها هدف إشاعة ثقافة التضامن بين الطبقات الوسطى والعليا من المغاربة، وإخوانهم من الفقراء والمحتاجين، أبناء المناطق القروية والنائية، البعيدة عن اهتمام مسؤولي العاصمة وبرامجها التنموية. هذا النشاط، والذي جسد فعلا لا قولا اهتمام الملك الشاب بهذه الفئة من مواطنيه، واستمر في ممارسته بحرص أكبر بعد أن صار ملكا وازدحمت أجندته بالأنشطة المتنوعة، أكسبه محبة صادقة من أبناء هذه المناطق النائية، لاسيما مع حرصه على تدشين المشاريع التنموية الخاصة بها شخصيا، وهو نشاط اتسع ليأخذ حيزا هاما على مدار السنة، خارج أسبوع التضامن في نوفمبر من كل عام، وأتاح فرصة للتواصل المباشر بين المواطنين وملكهم، يرونه، يصافحونه، يستمع لطلباتهم ويسمع دعاءهم له بالصحة وطول العمر، بشكل أخرجها من الحيز الرمزي إلى مجال الاتصال المجسد.

اقرأ المزيد:أي عرش يحتفي به المغاربة: عرش الإصلاح والعدالة الاجتماعية (2)

ملف آخر، زاد مدماكا في صرح العلاقة الوثيقة بين المواطنين وملكهم، تمثل في تبنيه “المفهوم الجديد للسلطة” مع استلامه الحكم. مفهوم كانت أولى تجلياته تصالح المواطنين مع رجال السلطة، وهم هنا رجال الأمن تحديدا من شرطة ودرك وجماعات محلية، بشكل أزال الاحتقان الذي شاب هذه العلاقة، والموروث من حقبة “سنوات الرصاص” في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والذي جاء كأحد مخلفات الحرب الباردة وعصر “الثورات الاشتراكية” التي ترجمت عبر محاولات انقلابية ضد والده الراحل الملك الحسن الثاني رحمه الله. وكان من ثمرات هذا المفهوم الجديد للسلطة، أن فتح الباب أما ثقافة حقوق الإنسان في المغرب، وقوى من نشاط المجتمع المدني في هذه المساحة.
غير بعيد عن ذلك، يبرز تتويج الملك محمد السادس لمسار رحلة اعتراف الدولة بمسؤوليتها عن وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال تلك الحقبة، من اعتقال تعسفي واختفاء قسري، وهو المسار الذي بدأ في عهد والده الراحل، وأنهاه الملك الجديد عبر تشكيل “هيئة الإنصاف والمصالحة”، وختم باعتراف الدولة بهذا الماضي، و”طلبها الصفح” من الضحايا وذويهم، وتعويض جميع ضحايا هذه الانتهاكات معنويا (عبر جلسات استماع علنية لهم على شاشات التلفزيون)، وماديا عبر مبالغ مجزية تتيح لهم بدأ حياة كريمة، وهي المبادرة اليتيمة عربيا، والتي لم يشهد تاريخنا القديم أو الحديث مثيلا لها، لأن أنظمتنا العربية جميعا وبلا استثناء اختارت وببساطة إنكار وجود مثل هذه الانتهاكات، ناهيك عن الاعتذار عنها وطلب الصفح من ضحاياها وتعويضهم.
مبادرة قوية أخرى، بنت على ما سبق وإن كانت محدودة في نطاق الجغرافيا المغربية، تمثلت في توجيه الجهد التنموي بشكل قوي جدا إلى المناطق الشمالية والشرقية للمغرب. فإذا علمنا أن آخر ملك قام بزيارة شمال المغرب بشكل رسمي (يسمونه هنا دخولا رسميا من الناحية البروتوكولية) كان الملك الجد محمد الخامس رحمه الله، وذلك في أبريل عام 1947، يمكننا أن نفهم ضخامة الدلالة الرمزية لمثل هذا الاهتمام الذي يبديه العاهل الشاب بهذه المناطق من مملكته. والأجمل أن اهتمامه لم يقتصر على المجال الرمزي، بل قرنه بالعمل التنموي الاستثماري في مختلف ميادين النشاط الاقتصادي والاجتماعي، من تحديث للبنية التحتية المهملة منذ الاستقلال، فك العزلة عن القرى والمناطق النائية، خلق مناطق صناعية وتجارية جلبت آلاف الوظائف، بناء ميناء طنجة المتوسطي، مشاريع الطاقة الريحية والشمسية، حماية مدن وقرى شمال وشرق المغرب من العطش ببناء عشرات السدود الكبرى والمتوسطة، وغيرها من الأنشطة التي خلقت حراكا حقيقيا في هذه المناطق لم تشهده على مدى تاريخها منذ عقود أن لم نقل قرون.

إقرأ المزيد:أي عرش يحتفي به المغاربة: عرش المبادرة والرؤية الاستراتيجية (1)

نفس المبادرة “الثورية” طالت الأقاليم الجنوبية للملكة، عبر مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية، والتي عكست فلسفة العاهل الشاب والحكم الجديد في المغرب، والتي تؤمن بأن أنجع السبل التنموية، هي في تسليم الناس مقاليد الحكم المحلي في محافظاتهم ومناطقهم، يشرفون على تطوير أنشطتها، يضعون البدائل المناسبة لها والمنسجمة مع إمكانياتها الاقتصادية والبشرية، ويتحكمون في عوائد وبالتي توزيع ثرواتها، وهو الأمر الذي جاء الدستور الجديد ليوسع نطاقه الجغرافي ليشمل باقي أقاليم المغرب عبر ما يسمى مشروع “الجهوية الموسعة”.
هذا دون الحديث طبعا عن القفزة التي شهدها وضع الحريات العامة والصحفية، وتحرير الإعلام، والمشاريع الكبرى في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية من قبيل مشروع “المغرب الأخضر” في الميدان الزراعي، “رؤية 2010” وبعدها “رؤية 2020” ومخطط الشواطئ الزرقاء في الميدان السياحي، والاهتمام غير المسبوق بالجالية المغربية المقيمة بالخارج والتي يربو عددها على الثلاثة ملايين، إضافة طبعا للعشرات من المبادرات التي تتوجه لتلبية احتياجات الناس الحقيقية لا الافتراضية في شتى الميادين.
وجاء الإصلاح الدستوري، ليتوج هذا المسار الناضج لعلاقة الاهتمام الحقيقي للعاهل المغربي بأبناء شعبه، وإنصاته لأي صوت ينبه إلى وجود خلل بينهم. فبعد تسعة عشر يوما فقط من خروج بضع مئات لشوارع بعض المدن المغربية، استغلالا لجو “الثورات العربية” وحراكها الاجتماعي في العشرين من فبراير، جاء خطاب الملك محمد السادس في التاسع من مارس، ليقول “فهمتكم” دون إبطاء أو مراوغة أو مكابرة، لأن علاقته بأبناء شعبه لا تحتمل ببساطة أي نوع من المكابرة أو المراوغة، حيث كان الصدق دائما عمادها الأول، وأعلن عن تشكيل لجنة تسهر على إعداد دستور جديد كليا للمملكة (لا مجرد تعديل للدستور) تضم كبار الخبراء الدستوريين والكفاءات الاقتصادية والحقوقية وممثلي المجتمع المدني من مختلف المشارب والتوجهات، وهو ما أهلها بعد التشاور مع جميع الفعاليات الحزبية والنقابية والحقوقية والأهلية، ومراكز الأبحاث والفاعلين الاقتصاديين، إلى صياغة دستور مفصل أجاب على جميع الأسئلة، وقدم حلولا هاجسها الصالح العام، بشكل أعلى سقفا من جميع المطالبات التي تقدم بها مختلف الفرقاء، دون تجزئة أو مساومة، مما ضمن للمغرب دستورا مستقلا يلبي احتياجات المغرب والمغاربة في مجملهم للسنوات والعقود القليلة المقبلة، وبما يضمن لهذا الشعب الانكباب على العمل على بناء مستقبلهم دون إضاعة وقت في معارك هامشية حول هذا البند أو تلك القضية. إصلاح سياسي ودستوري يصلح أساسا لعلاج مختلف الأمراض التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية، ويقدم صياغات إبداعية للمشاكل التي تتخبط فيها نخب هذه المجتمعات من قبيل هوية الدولة، آليات الممارسة الديمقراطية، علاقة المواطن بجهاز الدولة، حدود فعل وحركة مختلف السلطات وضمانات استقلالها، موقع الدين من ممارسة الشأن العام، وغيرها من القضايا التي تشغل بال النخب والمواطنين العرب في الدول التي تشهد حراكا اجتماعيا ينبئ ببدء مرحلة جديدة من حياة وطننا العربي.
وبعد كل هذا، هل يبقى مجال للاستغراب تجاه مظاهر المحبة الصادقة التي يمحضها المغاربة لملكهم الذي طوقوا عنقه ببيعتهم التي تتجدد سنويا، أو للتشكيك في صدق هذه المحبة وعمقها وشموليتها؟؟!!
ثم لنتحدث بشكل أكثر صراحة ومباشرة: بالله عليكم، أين هو الزعيم أو النظام الذي يبدي كل هذا الحرص على الاهتمام بأوضاع الطبقات الفقيرة من مواطنيه، والذين في العادة لا يجدون إطارا يعبرون فيه عن همومهم ومطالبهم، لا في الأحزاب ولا النقابات ولا الجمعيات؟ أين هي السياسات التي تترجم هذه المحبة في مشاريع واقعية، توفر متطلبات الحياة الكريمة، بعيدا عن مفهوم “الهبات” المستندة إلى فائض مالي نتيجة الطفرة النفطية، علما بأن المغرب هو أحد ثلاث دول عربية فقط ليس فيها نفط (إضافة للأردن ولبنان)؟ أين هي الدول التي تمتلك دستورا حديثا يقنن ممارسة المواطنين لشؤون حكمهم المحلي مباشرة ودون وسطاء (بعيدا عن النظرية الفاسدة والمزيفة للعقيد القذافي)، وتجعلهم أسياد مصيرهم المتحكمين في ترشيد مواردهم وعدالة توزيعها؟ أين هو النظام الذي يدير التنوع الثقافي والاجتماعي لمواطنيه من عرب وأمازيغ دون حيف أو تفرقة، وبمساواة ودون تمييز، ويشكل فضاء رحبا للتسامح الديني بين مسلميه ويهوده والمسيحيين من المقيمين فيه؟ بل أين هو النظام الذي يحفظ نسيجه الاجتماعي من التمزق، بين تدين يخرج من العصر، وحداثة تتنكر للهوية؟ وأخيرا وليس آخرا، أين هو الزعيم الذي يمضي أقل القليل من وقته في قصره بالعاصمة، ويختار التنقل الدائم لتدشين المشاريع التنموية شخصيا في أبعد المناطق عن العاصمة وأصغر القرى في الهوامش، يفتتح مستوصفا هنا ، ودارا لإقامة الطالبات هناك، ومشغلا تعاونيا لنسوة قرويات، ومشروعا اقتصاديا ضخما بإمكانيات تشغيل قوية في هذه المدينة أو تلك؟
إن مملكة بمثل عراقة المغرب (أقدم ملكية في العالم)، والتي بقيت مستقلة منذ تأسيسها على يد إدريس الأول، على الرغم من تقلب الممالك والإمبراطوريات أموية وعباسية وفاطمية وعثمانية، والتي نشرت أجنحتها لقرون على الجغرافيا الممتدة من حدود فرنسا إلى حدود السودان، وثبتت الحكم الإسلامي في الأندلس لأزيد من أربعة قرون بعد بدء حكم ملوك الطوائف، وساهمت في نشر الإسلام في غرب أفريقيا، ووقفت بجانب مختلف حركات التحرر الأفريقية في عز قوة وجبروت القوى الاستعمارية، ودافعت عن مختلف قضاياها العربية العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين وقدسها الشريف، وما أورثها إياه هذا التنوع والعراقة من غنى حضاري شمل مختلف مناحي الحياة فيها، لجديرة بأن تصبح منارا هاديا لأمتنا العربية والإسلامية. أما المحبة الوثيقة التي تجمع برباط لا ينفصم، المغاربة ومليكهم الساهر على خدمتهم، فهي كذلك نموذج يصلح للدراسة واستخلاص العبر، بشكل يجعلنا نؤمن بصدق الحناجر المغربية التي تصدح بكلمة “آمين” في صلاة كل جمعة، عند دعاء الخطيب: “اللهم أحفظ أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، بما حفظت به الذكر الحكيم”.. كيف لا وهو يحافظ على هذه العروة الوثقى بأبناء شعبه ويبادلهم ثقة دائمة بمحبة صادقة.

اقرأ المزيد:أي عرش يحتفي به المغاربة: عرش المواقف الوطنية (3)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق