قراءة في القصيدة الشعبية الجزائرية

عبد العالي الشرفاوي
ثقافة وفن
عبد العالي الشرفاوي14 أبريل 2015آخر تحديث : منذ 9 سنوات
قراءة في القصيدة الشعبية الجزائرية

عندما ظهر الشعر العامي ،ومنذ القدم، كان هو المتنفس الوحيد لعامة الناس،وذلك لما يحويه منعناصر ومكونات ذكرها الكبار من الباحـثين والمؤرخين للأدب العامي الذي استطاع أن ينتشر وبشكل كبير على مساحة الأدب بشكل عام، بل إن جمهوره أيام الاحتلال الفرنسي لبلادنا كان واسعا وكبيرا لما فرضه الفرنسيون من قيود على اللغة العربية و حظر تعليمها.

لقد كان الشعر العامي الشعبي المتنفسالحقيقي للنسبة العظمى من المجتمع الجزائري أيام الثورة التحريرية. وإذا نظرنا إلى الرؤيةالإبداعية لهذا الشعر لوجب القول إنه ومنذ ظهوره كان محملاً بهذاالإبداع الذي بدأه شعراؤنا القدامى أمثال بن قيطون ومحمد روّاق، وبزع مسعود، ومحمد الصالح لوصيف…الذين لازالت قصائدهم محور الأحاديث والدراسات بين الفترة والأخرى ، فهم بطبيعتهم البسيطة وبيئتهم المتواضعة وكذلك بصدقهم استطاعوا أن يبدعوا أروع.

والشعر العامي، عندما يرقى إلى المحك الإبداعي في هذه الفترة، فهذا ليسغريباً لانه بطبيعته (إبداع) وله مبدعوه الذين أوضحوه لنا بالرغم من افتقارهم للأدوات الإبداعية الحقيقية، بل كانت لديهم طبيعتهم الخاصة بهم وصدقهم في القول،الذي نراه واضحاً وجلياً لنا الآن خصوصاً إذا عدنا إلى ما تركوه لنا من قصائد فيهاالعديد من الصورالبلاغية والإبداعية المتفردة.

وعلى أننا نحرصعلى وجود الكتابة الراقية التي تتيح لنا فرصة البحث عن معطيات ذلك التطور إلا أننالازلنا بحاجة لدراسة اعمق واشمل لهذا الأدب الذي بدأه أسلافنا الشعراء بروحالصدق العاطفي والإبداع الفني. ولذلك كانلزاماأن تكون لدينا رؤية إبداعية حقيقيةلأدبنا الشعبي نوضحها من خلال هذه القراءة النقدية لبعض النماذج من الشعر الشعبي في أحداث الحادي عشر ديسمبر 1960 .

1- من حيث المضمون:

القصيدة الشعرية الملحمية الشعبية هي تلك القصيدة التي كان يلقيها أو يغنيها الشعراء الجائلون،وهذا النوع الأدبي قديم ظهر عند الإغريق وكان يسمىرابسودي Rhapsody،ومنذ بداية القرن التاسع عشر ظهر الرابسودي في التأليف الموسيقي الحديثوهو يستمد ألحانه من الألحان الفلكلورية ويعبر عن روح الشعب والقومية للمؤلف.([1])وقد حددت القصيدة الشعبية الجزائرية المخلدة لمظاهرات11 ديسمبر 1960 ما يلي:

1-1 تحديد تاريخ المظاهرات:

في قصائد الحادي عشر ديسمبر 1960 . ركز أصحابها على تحديد تاريخ المظاهرات لأنهم يدركون أن قصائدهم ستغدو وثيقة تاريخية لأجيال ما بعد الاستقلال يقول محمد روّاق([2])

إحْدى عَشَرْ ديسمبر الصَّادي من الصبح إكَنْدَرْ

والظاهر أن هذه القصيدة قالها متزامنة للمظاهرات لأنه في البيت الأخير يقول :
بالثورة نفري ذا التاريخ لازم يتكرر

لأن الشاعر قي هذا البيت يأمل أن يرى وعيا آخر وانتفاضات أخرى يقوم بها الشعب الجزائري حتى يدعم سلطة جيش التحرير وقوة المجاهدين أكثر ، ويدفع بقرار استقلال الجزائر إلى الأمام ويجعله فوق كل اعتبار.

ويقول محمد الصالح لوصيف ([3])محددا تاريخ المظاهرات:

بسم الله أبْدِيتْ ([4]) على الذِّكرى نَشْعَرْ واللِّي شَفْتْ بالعين أَنْعَبْرُو باللسـان

كِنـَدَاتْ جبهـة التحرير للقانون أَصْدَرْ في أَثْنَاشْ ([5]) من عام ستين بَيَّنا البرهان

أعظم مظاهــرة في حْدَاشْ([6]) ديسمبر وخْرَجْ شعب الجزائر رجال ونسوان.

بل هناك من الشعراء من حدد اليوم الذي حدثت فيه مظاهرات 11 ديسمبر 1960 بدقة يقول بزع مسعود ([7]):

بسم اله نبدأْ إنشادي وأ نْظَّمْ لَكْلامْ جَبْتْ مَنْ لَكْوانْ
هَاذي القَصة يا سيادي تَتُورَخْ وتَبْقى على طُول الزّْمان

يوم الأحد اللِّي أمْشينا و أولاد قمجَّة ([8]) أعْبارْ اللِّي يَخْشان.

1-2 تخليد بطولة المشاركين في المظاهرات:

تحدثت القصيدة الشعبية عن الفئات الشعبية المشاركة في تلك المظاهرات من نساء وأطفال وشباب وقبائل ومجاهدين ،يقول بزع مسعود:
يـوم الأحـد اللي امشينـا وأولاد قمجّة اعْبار اللي يخشان

احـراير خرجـت اتزغرت هـزّوا لعلامـات قدّام الشبان

ذاك الزيـن اللي امخيـــّر ذو في طولهم مطـرق بستـان

أتـراعي بالعين تبهـــت ورد جاء امفتّح في عرض جنان

أتلمـوا لبلاليـط جمـلــة عباسوكواني([9]) واحم الميــدان

غاشينـا([10]) كصَّـدْ مَنَّـه ذريّة الأشراف اضنـايت([11]) تبـان

فقد حددت القصيدة من القبائل المشاركة في المظاهرات ” أولاد قمجة” المعروفين بشدتهم وغلظتهم فهم “عبار اللي يخشان”، إلى جانب لبلاليط ، وأولاد عباس ، وأولاد كيواني ، وأولاد تبان الذين أحمو وطيس ميدان المظاهرات بحماسهم وإقدامهم.كما ذكرت القصيدة النساء اللائى كن في مقدمة المظاهرات حاملات الأعلام الوطنية محمسات الشباب بزغاريدهن وأهازيجهن الوطنية ، إن حضور كل فئات المجتمع الجزائري من نساء وأطفال وشباب ومجاهدين لهو هدف جبهة التحرير الوطني من تلك المظاهرات الرامية إلى تأكيد شعبية الثورة التحريرية والمطالبة بالاستقلال. وقد أكد الشاعر محمد الصالح لوصيف شعبية هذه المظاهرات قائلا:

أعظـم مظـاهرة في حـداش ديسمبر وخرج شعب الجزائر رجال ونسوان

في مركز أولاد سلام هجمو على العسكر لعدو اضرب بالرشاش وزاد الطيران

النساء زغرتت والرجال ايناديو الله أكبر في البيضة ([12]) دهموهم كبار وشبان

1-3تصوير همجية الرد الفرنسي على المظاهرات:

كان رد فعل السلطات الاستعمارية وحشيا وعنيفا لوقف المظاهرات فأطلقت الرصاص على المتظاهرين العزل فقتلت منهم المئات حتى سالت بدمائهم الأزقة والطرقات وأوقفت الآلاف حتى اكتضت السجون والمعتقلات بالموقوفين.لقد صورت القصيدة الشعبية الجزائرية هلع الجنود الفرنسيين أمام حشود المتظاهرين فقابلوهم بالطائرات والدبابات يقول بزّع مسعود:

الطيارة جات لينا واتشـوّر وتلـوح علينـا في الــدخـان

لطنـاق([13]) اللي جَاوْ لينـا أتْفيينـا مات لخضــر بن دحمان([14])
من لعْمـارْ أحْنـا اقْسينا وفي الدنيا يا خــاوتي ما كان أمان

شاهي نصـْفَ([15]) المَعْفـَرْ وانـسـَقْسيهــم([16]) واشْ صايـَرْ

مات العبْـد اكثير ياسـَر شيعة ريغه([17]) عايمه ([18])في كل أوطان

عين ولمان الي اتكســَّر ما واسَـه فيهـا العسكــــرْ

يـرفدْ في الـرجالــه إكسَّرْ في البيبان كَثْرُ لي لسمايْ ياسر([19])

ونظرا لما أحدثته المظاهرات من صدمة في نفوس الفرنسيين أصبحوا يطلقون النار عشوائيا على المتظاهرين يقول محمد روّاق:

والرومي إخبَّر ما صـابش كفـاه ادبـَّر

أتشوف العسكر في لاصاص([20]) الدم امغدَّر

وعن رد فعل السلطات الاستعمارية عن مظاهرات 11 ديسمبر التي بلغت حتى المدن الصغيرة والمداشر النائية كدشرة أولاد سلام نواحي باتنة حيث بلغت نسبة الشهداء فيها يوم هذه المظاهرات ثمانية وعشرين شهيدا وبين سبعة وثمانية مجاريح ، حيث يقول شاعر أولاد سلام محمد الصالح لوصيف :

في مركز أولاد سلام هجموا على العسكر العدو ضرب بالرشـاش وزاد الطـيران

استشهدوا ثمانية وعشرين أوفَاوْ بالعمـر سبعة والا ثمانيه أمجاريح قعدوا في المكان

حصدتهم الطيارة أغْمَرْ فوق أغْمَر أتعطْلتْ في الرؤس حصلو فيها الشيشانْ

ومما زاد من غضب الاستعما أن المجاهدين في القرى والمداشر كانت لهم بعض الردود لحماية المتظاهرين كاسقاطهم لبعض الطائرات التي تمر عليهم في اتجاه المتظاهرين يقول محمد الصالح لوصيف:

و طاحتْ الطيارة مطْلِيَّة بالدم لحمــر ودهْموهم الدبابات قصوهم قصَّان

ولعل من أهداف مظاهرات 11 ديسمبر 1960 فضح فرنسا التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان وابراز معاناة الشعب الجزائري أمام كاميرات العالم يقول محمد روّاق:

والبوسط([21]) يهدر([22]) والصحافة أدور أتصور

ليسمعوا العالم ما فعلته فرنسا المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان بالشعب الجزائري من تقتيل وتدمير يقول محمد الصالح لوصيف:

سمعوا الاستعمار إشَعَّـلْ وادَمَّـــرْ ويجْهَل الحرمات وحقوق الإنسان.

وكان ذلك انتصارا للشعب الجزائري وتطورا لثورته على الظلم والطغيان الفرنسي ، يقول محمد روّاق:

ما أحلى هذا المنظر كان اليوم الحرب مطور

لازمـني نشعـر والشعب إهلل و اكَبَّـرْ
العلـم أخْضَرْ منـوَّر آمـنا بالوطن تـحرر

ويقول بزَّع مسعود :
نصـر الله علينـا والعلامـات ترفـرف من البعـد اتبـان

وبالفعل نجحت المسيرات الشعبية الضخمة في سائر المدن و القرى و الأرياف في 11ديسمبر1960. و فشلت المحاولات الاستعمارية، و مخططات سوستل و لاكوست، وانصاع المستعمر للتفاوض الذي مر بمراحل مختلفة قبل الوصول إلى التوقيع على اتفاقيات إيفيان في 18مارس1962 ووقف إطلاق النار ابتداء من منتصف نهار19مارس1962 .

2- شكل القصيدة الشعبية الجزائرية :

يقترب شكل القصيدة الشعبية الجزائرية في بنائها الفني من الخطبة أو الرسالة ولا سيما في افتتاحيتها فهي مزيج بين الشعر والنثر ، أخذت من الشعر إيقاعه وحافظت على القافية فكل القصائد الشعبية الجزائرية مقفاة، وأخذت من النثر خطابيته ومقدماته .

2-1 مقدمة القصيدة:

فيفتتح الشاعر قصيدته بالبسملة على الطريقة النثرية ، وهذا راجع لتمكن العقيدة الإسلامية من نفوس الشعب الجزائري الذي جعل الإسلام شعارا لثورته وضمنه أول بنود نداء ثورة أول نوفمبر فكان هدف المجاهدين هو إقامة دولة جزائرية في إطار المبادئ الإسلامية وما ذلك إلا استجابة لمطالب وقناعة الشعب الجزائري ، وتجلت هذه الاستجابة كذلك فنيا في إبداع شعرائه الشعبيين ، يقول بزع مسعود من ولاية سطيف في مقدمة قصيدته السالفة:

بسـم الله نبـدأ إنشـادي وأنظَّمْ لكلام جبت من لكوان

ونجد الافتتاحية نفسها عند شاعر الأوراس محمد الصالح لوصيف:

بسـم الله أبديت على الذكرى واللي شَفْتْ بالعين أَنْعبرو باللسان.

وعلى الرغم من اختلاف الأماكن إلا أن القصيدتين جاءتا متفقتين في الافتتاح ذي الصبغة الدينية من جهة، ومن جهة أخرى يعقد هذا الافتتاح صلة قوية بين الشعر الشعبي الجزائري والنثر العربي مما يمكننا من تسمية هذا النوع من القصائد بقصيدة النثر التي تجمع بين خصائص الشعر وخصائص النثر.

2-2 الألفاظ والعبارات:

إن الألفاظ و الكلمات التي استخدمها الشاعر الشعبي الجزائري في قصائده تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم يمكن إعادته إلى العربية الفصحى ، وقسم متأثر باللهجة الأمازيغية، وقسم يرجع إلى الفرنسية. ، وكمثال على ذلك نأخذ قصيدة بلقاسم بركان([23]) التي عنونها بـ “أوليدات الرومية”:

روحوا يا وليدات الرومية روحــوا ياوليـدات الرومية

خلِّتـوا الدنيـا مخْلِيـَّة واتبـَقّـَى الوطـن مَشـْرارْ

يبقاوْ حيوطكم مَبْنَيِّـينْ أدور عــليهــم لحَبـْاَرْ

حطُّـوا عليهم لغْرَابـَهْ والهـامـة عـرّت لطْيـارْ

حتى الثعالب خشَّت ثمَّةْ وحفـرتْ راهْ دارتْ غــارْ

يبقى من غير ا سماهـم وغْـراب إقـاقي على لحَْجَارْ

والبوسطـة راه تتْقـى نقلــوا مـنهــا لخبـار

أضربها شعـب الحريـة وأمــرْ عليهـا بالتكسـار

اللي سمـاتهـم فرنسـا الماجوسية باسم الفلاقة لكبار.

2-2-1 الأثر العربي :

إن نسبة عالية من الألفاظ والكلمات التي استخدمها الشعراء الشعبيون يمكن إعادتها إلى العربية الفصحى ، على الرغم من أنهم لم يلتزموا فيها بقواعد الإعراب من ذلك :”روحو ” التي هي من الرواح وتعني هنا اذهبوا، وكلمة”اوليدات” تعني أولاد ، و”خلِّتوا” بمعنى تركتم،و “مخلية” من الخلاء بمعنى مدمرة ، و”احيوطكم “أي حيطانكم ، و”حطوا”أي وضعوا، وهكذا لا نجد في النص ما يبتعد عن العربية إلا القليل القليل من الألفاظ ، وحتى ما يبدوا منها غير فصيح مثل كلمة “فلاقة” و”إقاقي” فإننا إذا رجعنا إلى المعجمات العربية مثل القاموس المحيط نجد صاحبه يورد في باب القاف (مادة القوق) ما يلي: “والقاق الأحمق الطائش وقاقت الدجاجة صوت كقوقوات”([24]) .وأما “فلاقة” فهي عربية فصيحة استعملها الفرنسيون مريدين بها معنى آخر غير الذي نجده في القواميس العربية ، يصفون بها المجاهدين ويعنون بالفلاقة قطاع الطرق والخارجين عن القانون.

من هنا يتضح لنا أن الاختلاف الذي يبدو بين كلمات النص وأصلها العربي إنما يرجع إلى النطق المعتاد عند سكان المنطقة ، وتلك خاصية من خصائص اللغة الشعبية التي لا تلتزم بالقواعد النحوية والصرفية بصورة عامة إلا في النادر جدا، مما جعلهم يضيفون حروفا لكلمات، ويحذفون أخرى وهي أصيلة فيها، ومعنى هذا أن لغة القصيدة الشعبية الجزائرية ليست فصحى تماما ، وليست عامية نهائيا ، بل هي بين البينين، ولذلك لا يمكن نعتها بالفصحى نهائيا، أو بالعامية كلية. وإنما هي عربية الأصل محلية الطبع .

2-2-2 الأثر الفرنسي:

إن ما نجده في القصيدة الشعبية الجزائرية من كلمات فرنسية تتعلق في غالبيتها بالآلات المستحدثة التي لم تكن من صنع أيدي جزائرية أو حتى عربية، كما أن مستخدميها هم من عامة الشعب التي لا تعرف بديلها في العربية الفصحى ، ولو حاولنا توزيع ألفاظ النصوص التي بين أيدينا على نسب لما استطعنا تحديد هذه النسب بأرقام نهائية، إلا إذا قمنا بإحصاء كلي شامل لألفاظها واستخرجنا منها الأعجمي الذي لا نجد له أصلا في العربية.مثل كلمة”البوسط” التي هي بالفرنسيepost ([25]) التي تعني جهاز استقبال الإذاعة، فإذا أنثت الكلمة أصبحت “البوسطة” ويعنون بها مركز البريد والمواصلات أي محطة البريد.

ومن الكلمات الفرنسية كذلك كلمة “الطنق أو الطنك”وهي كلمةtank وأصلها إنجليزي وتعني نوعا من الدبابات استعمل خلال1917- 1918 واستعمل في الحرب العالمية الثانية للتصدي للدبابات([26]). وكلمة “لاصاص” وهي بالفرنسيةLa Z.A.C وتعني المناطق أو الأماكن المهيئة للإقامة. وكلمة “القبطان” التي هي بالفرنسية Capitain وتعنينقيبوهي رتبة عسكرية،وكذلك كلمة “اليوطنا”lieutnanو”الكرتوش”cartoucheفي قول الشاعر:

كِجانا اليوطنة أمسلح ومن الكرتوش هز ألفين

كلمة “فيلاج”وهي بالفرنسية Village وتعني القرية وتطلق في العامية الجزائرية على المدينة.في قو الشاعر:

قعـدنا ثمـَّة أبطيـنا أغْدَ للفِلاجْ خبر للقبطان

2-2-3 الأثر الأمازيغي:

يبدو أثر الأمازيغية واضحا في القصيدة الشعبية الجزائرية بعامة ، وفي ألفاظها بخاصة إذ نجد بعض الألفاظ الشاوية كلفظة “إكندر”في قول الشاعر محمد رواق في القصيدة السالفة :

إحدى عشر ديسمبر الصادي من الصبح إكندر

فكلمة “إكندر”تعني الصوت الذي يصدره المتعب والمنهك عند قيامه أو جلوسه ، كما تأثرت لغة القصيدة الشعبية الجزائرية كثيرا بالأمازيغية في حركاتها وبنائها ، وعلى سبيل المثال نجد في الأمازيغية كلمات تبدأ بساكن خلاف العربية التي لا تبدأ بساكن ولا تنتهي بمتحرك، كما أن هناك كلمات أخرى تنتهي بسكونين أو أكثر ، حتى في وسط الكلمة نعثر على ذلك ، وهذا ما نبه إليه محمد علي دبوز حين قال:<< واللغة البربرية سلسة مرنة ، تقبل كل الألفاظ الدخيلة فتبررها فتصبح جزءا منها، ومن خصائصها التي لا تجدها في العربية الابتداء بالساكن كقولهم(اتزاليت) للصلاة..ومن خصائصها اجتماع ساكنين وأكثر ، وقد ينقلب الفعل اسما والاسم فعلا>>([27]).

فالابتداء بساكن نجده في مثل هذه الكلمات التي اقتبسناها مما سبق من نصوص :اتْشوف،امْغور،اتْراعي، اتْلموا، انْعبرو..وغيرها كثير.

ومن هذه الخصائص أيضا اجتماع ساكنين أو أكثر في بعض ألفاظ النصوص الشعبية التي بين أيدين وهذا لا وجود له في العربية الفصحى التي إذا التقى فيها ساكنان كسر الأول ، في حين ننجد ذلك ممكنا في الأمازيغية وفي العامية الجزائرية مثل كلمة “إيناديو” بمعنى ينادون في قول الشاعر محمد الصالح لوصيف:

النساء زغرتتْ والرجال اينادِيوْ الله أكبر في البيضة دهموهم كبار وشبان

ففي آخر كلمة “اينادِيـوْ” نجد سكونين أحدهما ولَده حرف المد(الياء) والآخر على الواو. وكذلك كلمة “جبْتْ” في قول الشاعر بزع مسعود:

بسم الله نبدأ أنشادي وأنظَّّم لكلام جَبْتْ من لكوان.

ومعنى هذا أن وجود ساكنين في مثل هذه الألفاظ العامية التي كتبت بها هذه الأشعار يمكن أن يكون قد انتقل إليها من اللهجة الشاوية.

2-2-4- سقوط حركات الإعراب:

تتميز لغة القصيدة الشعبية الجزائرية كغيرها من القصائد الشعبية العربية بظاهرة تسكين أواخر الكلمات، وهذه الظاهرة قديمة جدا في اللهجات العامية بصفة عامة ([28]) ، فلغة القصيدة الشعبية الجزائرية لا تعرف ظاهرة كسر وضم وفتح آخر الكلمات كقول الشاعر:

اتشوفْ العسكرْ في لاصاصْ الدمْ امغدرْ

أوكقول الشاعر بزع مسعود:

ذاكْ الزينْ اللي امخيّرْ ذو في طولهمْ مطرقْ بستانْ

أو كقول محمد الصالح لوصيف:

في مركزْ اولادْ سلامْ هجموا على العسكرْ لعدوْ اضربْ بالرشاشْ وزادْ الطيرانْ

2-2-5الدراسة الصوتية:

سنتطرق في هذه الدراسة إلى بعض الخصائص الصوتية للقصيدة الشعبية الثورية المخلدة لأحداث الحادي عشر ديسمبر ستين تسعمائة وألف.

2-2-5-1-الحذف و التخفيف:

الحذف لغة :<< القطع وهو ظاهرة تشيع في لغة العرب وتهدف في كل مواقعها إلى التخفيف>>([29]) وقد يقع الحذف في الجملة والمفردة والحرف والحركة([30]) ، وهي في حقيقتها ظاهرة يُلجئ إليها ثقل في كلمة ما أو تركيب معين([31]) نحو قول الشاعر بزع مسعود:

لطناك اللي جاو لينا اتفيينا([32]) مات لخضر بن دحمان

فكلمة “جاو”….أصلها جاءوا، والملاحظ هو سقوط الهمزة تخفيفا، ومثلها قوله أيضا:

يرفد في الرجالة إكسر في البيبان كثرو لي لسماي ياسر

فكلمة “لسماي”……أصلها الأسماء. ومنه أيضا كلمة الطيارة التي أصلها الطائرة ، وكلمة”جات ” التي أصلها جاءت، وكلمة “لينا” التي أصلها إلينا، في قول الشاعر:

الطيارة اللي جات لينا واتشور تلوح علينا في الدخان

وعلة سقوط الهمزة كونها صوت <<عسير النطق، لأنه يتم بانحباس الهواء خلف الأوتار الصوتية ثم انفراج هذه الأوتار فجأة وهذه عملية تحتاج إلى جهد عضلي كبير>>([33])

2-2-5-2 الإبدال:

يعد الإبدال من الظواهر البارزة في لغة القصيدة الشعبية الجزائرية وهو << ظاهرة تتمثل في كون صوتين ما من الأصوات يتبادلان مكانهما في كلمة ما>>([34])، ثم لابد وأن << يقع الإبدال بين الأصوات المتقاربة في الصفات أو المخارج>>([35]) فمن ذلك إبدال الدال تاء في كلمة “اتزغرت” التي أصلها تزغرد في قول الشاعر محمد الصالح لوصيف:

النساء زغرتت والرجالة ايناديو الله اكبر في البيضة دهموهم كبار وشبان.

وفي قول بزع مسعود :

احراير خرجت تزغرت هزوا لعلامات قدّام الشبان.

فالإبدال الطارئ هنا هو ابدال الدال تاء في كلمة “تزغرت” التي أصلها تزغرد فكل من التاء والدال من مخرج واحد يتمثل في التقاء طرف اللسان بأصول الثنايا العليا من ناحية، وانفجارهما من ناحية أخرى إلى جانب كونها حرفين شديدين إلا أن الدال مجهورة والتاء مهموسة، لأن الدال تصاحبه حركة في الوترين الصوتيين والتاء غير ذلك([36])

2-2-5-3 النحت :

يعني الصقل وبمقتضاه نختصر الكلمة في حروف ، والجملة في كلمة([37])والنحت من الظواهر الصوتية التي استساغها الشاعر الشعبي الجزائري في عملية التلفظ هو استخدامه النحت([38]) الذي أصبح ملازما لأغلب الألفاظ التي يأتون بها في قصائدهم وكمثال على ذلك : “جابت” التي أصلها جاءت به، و”اللي” التي أصلها الذي، في قول الشاعر :

يوم الحد اللي مشينا وأولاد قمجة اعبار اللي يخشان

كذلك ،فإن الأعداد المركبة تدخل ضمن هذه الأمثلة نحو:”احداش” التي أصلها إحدى عشر،و”اثناش” التي أصلها اثنى عشر،يقول محمد الصالح لوصيف:

كيندات جبهة التحرير للقانون اصدر في اثناش من عام ستين بيّنا البرهان

أعظم مظاهرة في احداش ديسمبر وخرج شعب الجزائر رجال ونسوان.

ويقول الشاعر محمد روّاق:

احداش ديسمبر الصادي من الصبح اكندر

وعملية النحت في الكلمات تعكس لنا ظاهرة طبيعية هي ظاهرة تآكل الملفوظات لكثرة استعمالها جنوحا نحو التخفيف.

2-2-6 التنــاص:

من جماليات القصيدة الشعبية الجزائرية المخلدة لأحداث 11 ديسمبر 1960

أننا نجد في بعضها رائحة بن قيطون في قصيدته (حيزية) التي خلد فيها قصة حب في جزائر القرن الثالث عشر الهجري جمع فيها بين الغزل والرثاء.

من ذلك ما أعطاه للمرأة الجزائرية من أوصاف كتشبيه المرأة بالزهرة المتفتحة وسط البساتين والمروج تسلب عقول الرجال، يقول بن قيطون:

حســْراه على قْبيـلْ كنــَّا في تاويــل

كِنــوَّار العطيــل شــاَوْ النقْضِيــه([39])

إذا تمشــي قْبــال تسْلَـب لعقـــالْ([40])

يتجسد معنى هذه الأبيات في قصيدة بزّع مسعود :

احراير خرجَتْ اتْزغرتْ هزُّو لعلامات قدّام الشبان

ذاك الزِّيـنْ اللي امخيـَّر ذو في طولهم مطرق بستان

اتراعي بالعـين تبْهـتْ ورْدْ امْفَتَّـحْ في عرضْ جْنان

ويتجلى التناص أيضا في القصيدة الشعبية الثورية الجزائرية المخلدة لمظاهرات الحادي عشر ديسمبر مع قصيدة القرن الثالث عشر الهجري ممثلة في رائعة “حيزية” لابن قيطون في التوجه المباشر للمتلقين ، يقول ابن قيطون في ختام قصيدته:

تمـت ياسامعـين في الألـف وميتــين

كمـل تسعـين زيـد خمسـة باقيـة

ويتجلى هذا الخطاب المباشر للمتلقين في مقدمة قصيدة بزع مسعود مستعملا كلمة “ياسيادي ” بدل كلمة بن قيطون”ياسامعين”:
بسم الله نبـدأ إنشـادي وأنظَّم لكلام جبت من لكوان
هاذي القصـة ياسيـادي تتورخ وتبقى على طول الزمان

كما يتجلى التناص أيضا في تضمين القصيدة تاريخ الحادثة وقد مر في ما سلف أن ابن قيطون ذكر تاريخ قصيدته وهو 1295هـ ، ونجد هذا التضمين للتاريخ في القصيدة الشعبية الثورية الجزائرية في قول محمد رواق:
احداش ديسمبر الصادي من الصبح اكندر

وقول بزع مسعود:
يـوم الأحـد اللي مشينا وأولاد قمجـة اعبـار اللي يخشان

وقول محمد الصالح لوصيف:

كيندات جبهة التحرير للقانون اصدر في اثناش من عام ستين بيَّنا البرهان

أعظم مظاهرة في احداش ديسمبر وخرج شعب الجزائر رجال ونسوان.

بهذا نكون قد وضحنا بعض خصائص القصيدة الشعبية الثورية الجزائرية من حيث المضمون والبناء الفني، ولا ندعي أن هذه هي كل الخصائص التي تميز القصيدة الشعبية الثورية الجزائرية ، بل هذا جزء يسير فقط يمكن لدراسات أخرى في هذا المجال أن تكشف بقية كنوز هذه القصيدة .

المراجع

1-معجم المصطلحات الأدبية

http://www.ditnet.co.ae/contest/cuser2/dictionary.htm

2 ا لفيروزأبادي. القاموس المحيط. بيروت.

3Petit Larouse illustré 1988

4- محمد علي دبوز. تاريخ المغرب الكبير. مطبعة البابلي.ط1 .1964. ص 49.

5- وليد صديق ملحم. البنية اللغوية والصوتية للهجة بغداد . مجلة التراث . ص.81. العدد 4 . 1980. وزارة الثقافة والإعلام العراق.

6-سليم عبد الحميد . فن الإلقاء.مطبعة دار نشر الثقافة .الإسكندرية. 1977. ص 133.

7- عبد التواب رمضان.لحن العامة والتطور اللغوي.دار المعارف . القاهرة. ط1. 1967. ص54.

8-كانتينوا جان.دروس في علم الأصوات العربية. ترجمة صالح القرمادي.الجامعة التونسية .الشركة التونسية لفنون الرسم.1966 . ص 26

9-السمرائي اسماعيل خليل.التغيرات الصوتية في لهجة بغداد وجذورها اللغوية . رسالة ماجستير من جامعة بغداد. كلية الآداب.19. ص119

10- يعرفه اسماعيل خليل السامرائي ، التغيرات الصوتية في لهجة بغداد، رسالة ماجستير :170″ النحت نتاج حذف صوت أو أكثر من كل كلمة ومن امتزاج كلمتين أو أكثر بعد حذف أصواتها لصياغة كلمة واحدة تدل على معان”

الإحــالات

[1]- معجم المصطلحات الأدبية http://www.ditnet.co.ae/contest/cuser2/dictionary.htm

[2]- يبدو أنه شاعر من ضواحي سطيف

[3]- شاعر من أولاد سلام بباتنة

[4]-أبديت : بمعنى بدأتُ

[5]-اثناش: بمعنى إثنى عشر

[6]-حداش: بمعنى أحدى عشر

[7]- شاعر من نواحي عين ولمان بسطيف.

[8]- أولاد قمجة : عرش ،أي قبيلة، تسكن شمال عين ولمان ولاية سطيف ، سمو بذلك لأنهم أول من لبس القمجة أي القميص في زمانهم.

[9]- عباس وكيوان: أسماء عائلات معروفةفي منطقة عين ولمان.

[10]- غاشينا : الغاشي بالعامية الجزائرية هو الشعب أو الجماعة غير المعروفة.

[11]- ضنايت : اولاد

[12]- هية مدينة بيضة برج القريبة من أولاد سلام بولاية باتنة موطن الشاعر

[13]- لطناق: مفرده طنق وهو نوع من الجرارات ذو سلاسل حديدية مكان العجلات المطاطية.

[14]- لخضر بن دحمان:بطل من قبيلة أولاد تبان سقط شهيدا في مظاهرات 11 ديسمبر 1960 بقرية الشط شرق عين ولمان بحوالى 08 كلم.

[15]-نصْفَ: بمعنى أصل وأبلُغ.

[16]- انسقسيهم: استقصي منهم

[17]- ريغة: اسم يطلق على جزء من سكان بلدية عين ولمان، يضم مجموعة من الأعراش.

[18]- عايمة:شائعة ومشهورة

[19]- لسماي ياسر: أي الأسماء كثيرة

[20]- لاصاص:

[21]- البوسط : أي الراديو أو الإذاعة المسموعة وهي كلة فرنسية post

[22]يهدر : يتكلم

[23]- شاعر من أصل أمازيغي من مواليد مدينة مروانة ولاية باتنة.

[24]- الفيروزأبادي. القاموس المحيط. بيروت (مادة: قوق)

[25]- Petit Larouse illustré 1988

[26]-المرجع نفسه

[27]- محمد علي دبوز. تاريخ المغرب الكبير. مطبعة البابلي.ط1 .1964. ص 49.

[28]- وليد صديق ملحم. البنية اللغوية والصوتية للهجة بغداد . مجلة التراث . ص.81. العدد 4 . 1980. وزارة الثقافة والإعلام العراق.

[29]- محمد سمير نجيب البدي. معجم المصطلحات النحوية والصرفية. مؤسسة الرسالة بيروت.ص62.

[30]- المرجع نفسه.الصفحة نفسها

[31]- المرجع نفسه.ص73.

[32]- تفيينا : تفرقنا.

[33]- عبد التواب رمضان.لحن العامة والتطور اللغوي.دار المعارف . القاهرة. ط1. 1967. ص54.

[34]-كانتينوا جان.دروس في علم الأصوات العربية. ترجمة صالح القرمادي.الجامعة التونسية .الشركة التونسية لفنون الرسم.1966 . ص 26

[35]-السمرائي اسماعيل خليل.التغيرات الصوتية في لهجة بغداد وجذورها اللغوية . رسالة ماجستير من جامعة بغداد. كلية الآداب.19. ص119

[36]- إبراهيم أنيس. الأصوات اللغوية .دار النهضة العربية.ط3. .1963. ص 59

[37]- السمرائي اسماعيل خليل. التغيرات الصوتية في لهجة بغداد.ص 170.

[38]- يعرفه اسماعيل خليل السامرائي ، التغيرات الصوتية في لهجة بغداد، رسالة ماجستير :170″ النحت نتاج حذف صوت أو أكثر من كل كلمة ومن امتزاج كلمتين أو أكثر بعد حذف أصواتها لصياغة كلمة واحدة تدل على معان”

[39]- نوار: زهر و الورد، لعطيل : الحقل أو البستان، شاوْ: لعلها كلمة شاوية تعني بداية الشيء، النقضية: بداية تفتح الـزهار في الربيع.

[40]- لعقال: العقول .

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق